لكي تبقى الأمم المتحدة جديرة بالثقة في هذا القرن، يجب أن يتطور أسلوب اختيار قيادتها ويتجاوز ممارسات الأمس

بقلم أحمد فتحي
“أصوات واضحة. تأثير عالمي”
إنتاج الأخبار والإعلام
الأمم المتحدة – نيويورك: بدأ السباق رسميًا لاختيار الأمين العام القادم للأمم المتحدة. فبالرسالة المشتركة الصادرة في 25 نوفمبر، فتح رئيسا الجمعية العامة ومجلس الأمن الباب أمام ما يُتوقّع أن يكون أحد أكثر سباقات القيادة تأثيرًا في تاريخ المنظمة الحديث. وعلى السطح، تبدو الرسالة مجرد دعوة إلى تقديم الترشيحات؛ لكن في الواقع، هي اختبار سياسي حقيقي لقدرة الأمم المتحدة — ولرغبة المجتمع الدولي — على الالتزام بالشفافية.
وبوصفي صحفيًا غطّى شؤون هذه المؤسسة لأكثر من عقد، رأيت كيف يكشف اختيار الأمين العام ميزان القوى العالمي بوضوح أكبر مما تفصح عنه الكثير من نقاشات مجلس الأمن. وهذه الدورة ليست استثناءً. فالأمم المتحدة تدخل هذا الاستحقاق وهي مثقلة بانقسامات جيوسياسية، وأزمة مالية خانقة، وتراجع الثقة بفعالية العمل المتعدد الأطراف. اختيار من سيقود المنظمة بعد عام 2027 ليس مجرد إجراء إداري؛ بل هو استفتاء على نوع الأمم المتحدة الذي لا تزال الدول الأعضاء تؤمن به — إن كانت تؤمن به أصلًا.
من الغرف المغلقة إلى انفتاح مشروط
قبل عام 2016، كان اختيار الأمين العام طقسًا غامضًا تُهيمن عليه الدول الخمس الدائمة، وتُدار جلساته خلف الأبواب المغلقة بعيدًا عن أعين الرأي العام. هذا الاحتكار انكسر عندما طالبت الدول الأعضاء ومنظمات المجتمع المدني بالإصلاح، فظهرت لأول مرة البيانات الرؤيوية، والجلسات العلنية، والمساءلة أمام الجمهور.
رسالة 25 نوفمبر تؤكد استمرار هذا الانفتاح — ولو جزئيًا. فالمرشحون باتوا ملزمين بتقديم إقرارات مالية، في خطوة طال انتظارها للحد من الحملات المكلفة التي قد تمنح أفضلية غير عادلة. لكن رغم هذه التحسينات، لم يتغيّر مركز الثقل السياسي. إذ رفضت الدول الدائمة الأعضاء تحديد مهلة للترشيحات، في مؤشر واضح: الشفافية زادت، لكن ميزان القوة لم يتزحزح.
ديناميات مبكرة: الجندر، الجغرافيا، وقائمة مرشحين آخذة في التبلور
ثلاث قوى تُشكّل هذا السباق منذ الآن:
1. المطالبة بأول امرأة تتولى منصب الأمين العام
بعد 80 عامًا من الهيمنة الذكورية، يتزايد الزخم خلف مرشحة امرأة، وهو ما تعكسه أبرز الأسماء المُعلنة:

مرشحون معلنون رسميًا:
لكي تبقى الأمم المتحدة جديرة بالثقة في هذا القرن، يجب أن يتطور أسلوب اختيار قيادتها ويتجاوز ممارسات الأمس
ريبيكا غرينسبان (كوستاريكا) — الأمينة العامة للأونكتاد، وتُعد من أبرز المرشحات بفضل خبرتها الاقتصادية ومسيرتها الطويلة داخل الأمم المتحدة.
ميشيل باشليه (تشيلي) — رئيسة سابقة لتشيلي ومفوضة سامية سابقة لحقوق الإنسان، وتتمتع بوزن دولي بارز.
رافائيل ماريانو غروسي (الأرجنتين) — المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأبرز المرشحين الرجال، خصوصًا بعد دوره في إدارة الملفات النووية الحساسة.
أسماء أخرى يجري تداولها في الكواليس:
جاسيندا أرديرن (نيوزيلندا) — رئيسة الوزراء السابقة، رمز عالمي للقيادة الأخلاقية وموضع إعجاب واسع، رغم عدم إعلان أي نية رسمية للترشح.
أليسيا بارسينا (المكسيك) — بخبرة طويلة داخل منظومة الأمم المتحدة، تُعد خيارًا قويًا من أمريكا اللاتينية.
ماريا فرناندا إسبينوزا (الإكوادور) — وزيرة سابقة ورئيسة للجمعية العامة، وتبرز دائمًا ضمن الأسماء اللاتينية الجدية.
كريستالينا غورغييفا (بلغاريا) — المديرة السابقة لصندوق النقد الدولي، وتُذكر أحيانًا كاسم ثقيل في الحوكمة العالمية، رغم تعقيدات موقعها الإقليمي.
إذا كانت المنظمة على وشك اختيار أول امرأة لهذا المنصب، فإن أمريكا اللاتينية تمتلك اليوم أقوى وأعمق قائمة جاهزة للمنافسة.
2. إصرار مجموعة أمريكا اللاتينية والكاريبي (GRULAC)
المجموعة أعلنت بوضوح أن الدور قد وصل إليها ضمن التقاليد غير المكتوبة للتوزيع الجغرافي. ومع تعدد المرشحين المؤهلين، قد تدخل GRULAC المنافسة هذه المرة بصفّ أكثر تماسكًا من أي وقت مضى.
3. توقع جديد بأن يعلق موظفو الأمم المتحدة مهامهم أثناء الترشح
وهو إجراء يهدف لمنع أي افتراض بأن المرشحين “من الداخل” يتمتعون بميزة مؤسسية. احترام هذا الإجراء — أو تجاهله — سيكون اختبارًا مبكرًا للالتزام بالعدالة.
الشفافية لا تنجح إلا إن تبنتها الدول الأعضاء
سيُنشر جميع المرشحين على موقع إلكتروني مخصص، وستُعاد الجلسات الحوارية للجمعية العامة — أهم ابتكارات 2016. هذه الجلسات تمنح العالم فرصة لرؤية المرشحين تحت الضغط، وهي ميزة لم تكن متاحة قبل عقد واحد فقط.
لكن التجربة السابقة لم تكن مثالية. الأسئلة تكررت، مشاركة المجتمع المدني كانت محدودة، والوقت لم يكفِ للتقييم الجاد. فإذا أرادت الدول “قائدًا قويًا”، فعليها طرح أسئلة قوية — لا الاكتفاء بخطاب بروتوكولي.
مجلس الأمن: الامتحان الحقيقي
بعد المرحلة العلنية تبدأ اللعبة الحقيقية داخل مجلس الأمن: لقاءات خاصة مع المرشحين، ثم “الاقتراعات الاستطلاعية” المعروفة، والتي تكشف مستوى الدعم والفيتو المحتمل.
في عام 2016، تسربت نتائج كل جولة تقريبًا خلال ساعات، مما نسف سرية المجلس بالكامل. وإذا تكرر الأمر — وهو شبه مؤكد — فإن نشر النتائج الرسمية سيكون أقرب إلى الحوكمة الرشيدة منه إلى الجرأة.
اختبار لمصداقية الأمم المتحدة
الأمين العام القادم سيتولى دفة منظمة مثقلة بالأزمات المالية، والانقسامات السياسية، وتصاعد النزاعات. ونقاش سلوفينيا حول “القيادة من أجل السلام” يوضح أن هذا المنصب ليس رمزيًا؛ إنه يتطلب قدرة على إدارة الأزمات، والتفاوض، والدفاع عن النظام متعدد الأطراف.
العالم يراقب — ليس لمعرفة من سيفوز فقط، بل لمعرفة ما إذا كانت الأمم المتحدة لا تزال تملك الشجاعة المؤسسية لإجراء عملية شفافة حقًا.
إن عادت الدول إلى العادات القديمة، فالضرر سيتجاوز هذه الدورة. أما إن تبنّت الشفافية، فقد تختار المنظمة قائدها القادم بثقة لا بتعتيم.
وهذا بالضبط ما تحتاجه الأمم المتحدة اليوم.



