اليمن خارج التخصص.. وتحليل ناقص بلا سياق

✍️ مأرب الورد
يقدّم الصحفي يوسف الشريف نفسه، في عدد من مقاطع الفيديو التي يتناول فيها قضايا المنطقة، كما لو كان خبيرًا في “الجغرافيا السياسية” لعدد من دولها، ومن بينها اليمن، أو هكذا يُفهم من طريقة الطرح والثقة التي يتحدث بها عن مسارات شديدة التعقيد.
ورغم اعترافه الصريح في هذا المقطع بأن اليمن خارج نطاق اهتمامه أو اختصاصه المباشر، فإنه يمنح نفسه في الوقت ذاته حق مناقشة وتحليل ما يجري في هذا البلد، من زاوية كونه “صحفيًا مطّلعًا”، دون أن يقدّم إحاطة كافية بتعقيدات الملف اليمني وتشابكاته السياسية والعسكرية والإقليمية.
وأزعم أنني متابع لجزء من كتاباته، وأعرف أسلوبه جيدًا، لكنني هنا لا أناقشه انطلاقًا من خلفيته المهنية أو ميوله الفكرية والسياسية التي يلحظها من يتابعه، بل انطلاقًا من مبدأ أساسي يفترض أن يلتزم به أي صحفي، وهو أن القراءة العميقة شرطٌ مسبق للكتابة أو الحديث عن أي موضوع.
هذا المبدأ قد يُتسامح فيه نسبيًا حين يكون الموضوع بسيطًا أو هامشيًا، لكنه يصبح إشكاليًا حين نتحدث عن ملف شديد التعقيد كاليمن، وعن بلد يعترف الكاتب نفسه بأنه خارج دائرة اهتمامه الأساسية.
بدأ يوسف حديثه باستعراض دور السعودية والإمارات في إطار التحالف العربي الذي قادته الرياض دعمًا لشرعية الرئيس عبدربه منصور هادي، وأنا هنا لا أناقش تقييم دور الإمارات في تحرير عدن من عدمه، فهذه قضية أخرى لا أراها محور النقاش الآن. كما أشار إلى الدور الاستخباراتي السعودي في تهريب الرئيس هادي من قبضة الحوثيين في صنعاء، وهي نقطة أخرى لا أرغب في مناقشتها في هذا السياق.
ما يهمني هو ما انتقل إليه لاحقًا، حين طرح تساؤله التقييمي:
“ماذا فعل عبدربه منصور هادي بعد كل ما قُدّم له؟”
هذا السؤال، بصيغته الحالية، يبدو أقرب إلى حكمٍ مُسبق منه إلى مدخل لتحليل موضوعي. كنت أتوقع – أو على الأقل أتمنى – أن يقدّم أمثلة واضحة ومحددة على أخطاء الرجل أو إخفاقاته، وهي كثيرة بطبيعة الحال، بدل الاكتفاء بسؤال مفتوح ثم الانتقال مباشرة إلى خلاصة عامة مفادها الفشل والفساد، دون بناء منطقي أو شواهد دقيقة.
فمن غير المنصف، تحليليًا، تجاهل حقيقة أن صلاحيات الرئيس هادي تآكلت تدريجيًا بعد تدخل التحالف، إلى درجة أن قرارات تعيين أو إقالة مسؤولين باتت مرهونة بموافقة الدولتين، لا سيما في الحالات التي عبّر فيها بعض المسؤولين عن آراء ناقدة لممارسات التحالف داخل اليمن.
بل إن أي مسؤول محلي حاول أن ينجح أو يحقق إنجازًا ملموسًا، كان يُنظر إليه بعين الريبة، ولعل المثال الأوضح على ذلك هو محافظ شبوة السابق محمد صالح بن عديو، الذي استطاع تنفيذ عدد من المشاريع التنموية والخدمية في محافظته رغم الظروف الصعبة، ومع ذلك جرى استهدافه سياسيًا وإقصاؤه ويينسحب هذا الأمر على وزراء ومسؤولين آخرين أيضًا.
وبالتالي، فإن توصيف مرحلة هادي بالفشل المطلق، دون وضع هذه القيود في الاعتبار، يُعد تبسيطًا مخلًا للصورة الكاملة.
نعم، الرجل يتحمّل مسؤولية كبيرة، وقد انتقدناه منذ عام 2013، لكن تحميله وحده كل أوزار الفشل، في ظل واقع أصبحت فيه الدولة عمليًا تحت تأثير وسيطرة دولتين، ليس توصيفًا عادلًا ولا دقيقًا.
انتقل يوسف بعد ذلك للحديث عن الفساد، وعن إقامة المسؤولين خارج البلاد بدل التواجد في عدن، وهو نقد صحيح في جانب كبير منه، لكن في المقابل، تجاهل – أو أنكر ضمنيًا – واقعًا أساسيًا، وهو أن عدن لم تكن عاصمة آمنة أو مستقلة القرار، في ظل تنازع السيطرة العسكرية والأمنية مع المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي جرى تشكيله بدعم إماراتي كامل عام 2017، عقب إقالة الرئيس هادي لمحافظ عدن حينها عيدروس الزبيدي.
في هذا الواقع، لم يعد المسؤولون يتمتعون بحرية الحركة أو القدرة الفعلية على أداء مهامهم. وهذا لا يبرئهم من المسؤولية، لكنه يكمّل الصورة التي لا يجوز بترها، ثم تجاهل يوسف، لأسباب غير واضحة، مسؤولية المجلس الانتقالي ودور الدولتين في تعقيد المشهد، وكأنه أراد حصر المسؤولية في طرف يمني واحد فقط.
وهنا تبرز شهادة القيادي المؤتمري عصام شريم، الذي تحدث في قناة الجزيرة عن طلب إماراتي لتوقيع اتفاق يمنح أبوظبي جزيرة سقطرى لمدة 99 عامًا، وهو ما قوبل بالرفض من قبل هادي، باعتبار أن الاتفاق غير عادل وينتهك السيادة. وذكر شريم أن هادي قال له صراحة إنه لو وافق، لاستُقبل في عدن “استقبال نابليون”، لكن رفضه فتح الباب لإطلاق يد المجلس الانتقالي لإفشال سلطة الشرعية في عدن.
ولو كانت عدن قد تحوّلت إلى عاصمة حقيقية ومنطلق فعلي لتحرير بقية المناطق، لربما ما استمر الحوثي حتى اليوم، لكن ما حدث هو العكس تمامًا؛ إذ منع المجلس الانتقالي تقديم نموذج دولة، واستنزف قوات الشرعية في معارك جانبية، وأفشل أي إمكانية لبناء بديل جاذب.
كما أغفل يوسف دور الإمارات في أحداث 2019، حين أُخرجت قوات هادي من عدن بالقوة، وسيطر الانتقالي عليها، ثم فُرض اتفاق الرياض، الذي اعترف بالانتقالي كطرف شرعي، دون تنفيذ بنوده المتعلقة بإخراج قواته من عدن، بل إن الواقع سار في الاتجاه المعاكس، حيث ترسخت سيطرة الانتقالي على عدن وأبين والضالع.
وبعد أن اتضحت أهداف التدخل، التي تباينت مع الشعارات المعلنة المتمثلة في استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب الحوثي والحفاظ على وحدة اليمن، بات واضحًا أن الرئيس هادي أصبح عبئًا – على الأقل بالنسبة للرياض – فكان لا بد من التخلص من معضلة فشل إعادة الشرعية إلى صنعاء، فجاءت مشاورات الرياض، التي لم تناقش جوهر الأزمة، بل أفرزت مجلس قيادة رئاسي مناصفة بين الرياض وأبوظبي، في خطوة فاجأت حتى المشاركين أنفسهم، كما اعترف بذلك الدكتور عبدالله عوبل، الأمين العام لحزب التجمع الوحدوي.
ورغم كل ذلك، يصرّ يوسف على تحميل المسؤولية لطرف يمني واحد، ويتجنب الحديث عن دور المجلس الانتقالي داخل المجلس الرئاسي، أو عن تعطيله لعمل الحكومة، أو عن كونه جزءًا أصيلًا من منظومة الفشل والفساد.
وفي حديثه عن التطورات في شرق اليمن، قدّم تفسيرًا سطحيًا، مفاده أن القبائل المتحالفة مع الانتقالي تحركت بدافع انعدام الخدمات، وهو تفسير غير دقيق. فالمتحرك فعليًا هو المجلس الانتقالي بتشكيلاته العسكرية، بهدف معلن يتمثل في فرض مشروع الانفصال بالقوة، ثم وقع في معادلة مضللة، حين صوّر المشهد وكأن اليمنيين محاصرون بين خيارين فقط: الحوثي من جهة، و”الشرعية” من جهة أخرى، متجاهلاً أن الطرف الآخر الذي يُراد فرضه هو الانتقالي وهو مليشيا مسلحة ذات مشروع انفصالي، لا تختلف في منطق القوة عن الحوثي، وإن اختلف الشعار.
وأخيرًا، حاول تبرئة الدولتين من التحكم المباشر بالمشهد اليمني، مدعيًا أنهما تكتفيان بالدعم والنصح، في تجاهل واضح لحقائق ماثلة، يكفي منها الإشارة إلى المفاوضات المباشرة بين السعوديين والحوثيين في مسقط لمدة عامين، وتوقيع ما يسمى “خارطة الطريق” دون علم الحكومة اليمنية، والتي فُرضت عليها القبول بها وتقديم تنازلات كبيرة للحوثيين تجلت في هدنة 2022، فضلًا عن إجبار الحكومة على التراجع عن قرارات سيادية، كما حدث مع قرارات البنك المركزي، بذريعة الخوف من التصعيد العسكري ضد السعودية.
هذا التجاهل المتعمد لدور الخارج لا يخدم الحقيقة، ولا يعفي أحدًا من المسؤولية، لكنه يقدّم سردية ناقصة ومضللة عن واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في المنطقة.



