“صدى الرياح وعبق البخور: حين كان الصوماليون أسياد المحيط والبحر”

✍️ عبد الرشيد محي الدين كالموي
مستشار وزير الإعلام الصومالي
كان المحيط الهندي، عبر قرون متطاولة، أشبه بمسرح واسع تتحرك فوقه السفن كما لو كانت كائنات حيّة تعرف طريقها بالغريزة، وترسم بخطوط أشرعتها قصة الحضارات التي عبرت مياهه الدافئة.
وفي قلب هذا المشهد الآسر، كان التجار الصوماليون يؤدّون دورهم بثقة العارف بالبحر، وبمهارة رجال اعتادوا أن يجعلوا من الرياح طريقًا، ومن الأمواج صديقًا، ومن الرحلة أسلوب حياة.
(الصوماليون وأسرار الرياح الموسمية)
لم يكونوا تجارًا عابرين؛ كانوا أبناء البحر وحُرّاس طرقه التجارية القديمة.
فمنذ ما قبل الميلاد، اشتهر الصوماليون بقدرتهم على قراءة حركة الرياح الموسمية، تلك التي تهب فتفتح الطرق البحرية نحو الهند والخليج، ثم تعود لتقود السفن نفسها أدراجها محمّلة بالغنائم الاقتصادية.
أصبحت موانئ مثل مقديشو ومركا وبوصاصو وبربرة وكسمايو محطات ثابتة في ذاكرة العابرين، ونقاطًا مضيئة على خرائط التجارة التي لا تنام.
(ثروات الأرض ورائحة اللبان)
كانوا يحملون معهم ما اشتهرت به أرضهم منذ آلاف السنين: اللبان والمرّ والعطور والجلود والصمغ العربي.
لم تكن مجرد بضائع، بل كانت ثروات روحية واقتصادية في آن واحد.
اللبان الصومالي تحديدًا، ذاك الذي تصعد رائحته الدافئة كما لو كانت تراتيل، كان يُستخدم في معابد المصريين والبابليين والرومان، وكان الصوماليون وحدهم تقريبًا يمتلكون سرّ الوصول إلى شجيراته العنيدة في الجبال الصخرية.
(أسواق تنبض بالحركة والاختلاط الثقافي)
وفي مقابل ذلك، عادت سفنهم محمّلة بالتوابل الهندية، وبالمنسوجات الرفيعة، وبالمعادن والحبوب وكل ما تحتاجه المدن الساحلية كي تزدهر.
كانت الأسواق تعجّ بالحركة، تختلط فيها لهجات متعدّدة، وتلتقي فيها روائح القرنفل والفلفل مع عبق البحر، فتبدو الحياة كما لو كانت لونًا واحدًا يتنفّس من رئة واحدة.
(شبكة علاقات تمتد شرقًا وغربًا)
ومع مرور الزمن، ولدت شبكة علاقات واسعة نسجها التجار الصوماليون مع شعوب الشرق والغرب.
فهموا مبكرًا أن التجارة ليست مجرد تبادل منفعي، بل هي فن بناء الثقة وصياغة لغة مشتركة بين أمم لا تعرف بعضها.
وهكذا تحوّلت عدن ومسقط وكاليكوت وجزر المالديف إلى محطات لعلاقات إنسانية وثقافية، لا تقل قيمة عن البضائع التي تُنقل في بطون السفن.
(الصوماليون في الصين… حضور مدوٍ)
وكان للحضور الصومالي في الصين أثر بارز أيضًا، إذ تتحدث سجلات أسرة سونغ عن بعثات بحرية صومالية وصلت إلى كانتون، حاملة معها العنبر والزرافات والنمور كهدايا للقصر الإمبراطوري، في ما يشبه عرضًا حضاريًا على خشبة بحرٍ لا يعرف الحدود.
هذا الانتشار الواسع يكشف عن مهارة ملاحية استثنائية، وعن فهم عميق لدورة المونسون الصيفي والشتوي، وكأن البحر كتاب مفتوح يقرأه الصوماليون بسلاسة.
(قوة التجارة وصناعة المدن)
لم تكن التجارة مجرد سلعة وسعر، بل كانت قوة شكّلت المدن الساحلية الصومالية، فحوّلتها إلى مراكز حضرية نابضة بالحياة، فيها أثر عربي وفارسي وهندي وصوت إفريقي لا يخطئه السمع.
تشهد العملات التي ضُربت في مقديشو خلال القرون الوسطى على استقلال اقتصادي ورخاء جعل المدينة واحدة من أقوى الموانئ في المحيط.
(الجانب المظلم من التاريخ)
ومع ذلك، لم يخلُ التاريخ من صفحاته المؤلمة؛ فقد كانت بعض الموانئ الصومالية جزءًا من تجارة العبيد في المحيط الهندي، مثلها مثل موانئ عربية وهندية وإفريقية أخرى.
ورغم هذا الوجه القاسي، فإن الحركة الاقتصادية الشاملة التي شارك فيها التجار الصوماليون أسهمت في إدخال منسوجات وصناعات وحبوب حافظت على استقرار مجتمعات الساحل في فترات الجفاف والقحط.
(الصومال… حلقة وصل في شبكة العالم)
وبين كل هذه التيارات، ظل الصومال حلقة وصل مهمة في شبكة التجارة العالمية القديمة.
كان محطة للبضائع وممرًا للأفكار، ونقطة التقاء بين الشرق والغرب، ومنارة لملاحة بحرية يعرف الصوماليون أسرارها كما يعرفون طرق البادية في الليل.
إن قصة التجار الصوماليين ليست مجرد سرد تاريخي، بل روح تمتد من الماضي إلى الحاضر.
فالصوماليون، وهم يبحرون في المحيط الهندي بسفنهم الخشبية، لم يكونوا مجرد تجار، بل صناع حضارة، ورواة طريق، وشهودًا على زمنٍ جعل من المحيط بحيرة واحدة تربط شعوبًا كثيرة برباط التجارة والثقافة والإنسان.
وفي هذا الامتداد الأزلي بين الأمواج، يستمر إرثهم، يضيء الطريق كما لو كان منارة لا تنطفئ.
الصومال_ الآن – الحقيقة أولاً



