زيارة “مايك والتز” وتثبيت “سلام الرئيس الأمريكي”

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
تأتي زيارة السفير مايك والتز، ممثل الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، إلى الأردن وإسرائيل ما بين 6 و10 كانون الأول/ديسمبر، بوصفها حلقة جديدة في محاولة إدارة الرئيس دونالد ترامب ترسيخ ما تعتبره “إنجازها الأبرز” في ملف غزة، أي خطة النقاط العشرين والقرار 2803 الصادر عن مجلس الأمن، الذي أضفى للمرة الأولى غطاء أمميًا على ترتيبات أمنية وسياسية واسعة في القطاع، تشمل قوة استقرار دولية و”مجلس سلام” لإدارة مرحلة انتقالية معقّدة.
يقدّم البيان الصادر عن البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة الزيارة في إطار مألوف وهو: تأكيد «الالتزام الأميركي بالاستقرار الإقليمي» وتنفيذ خطة الرئيس ” دونالد ترامب” بشأن غزة ودعم أهداف القرار 2803. وتحمل هذه الصياغة في طيّاتها افتراضًا سياسيًا واضحًا: أن المسار الذي ترسمه واشنطن -من وقف إطلاق النار، إلى نشر قوة استقرار دولية، إلى تشكيل “مجلس سلام” متعدد الأطراف يتولى الإشراف على غزة- هو الإطار الواقعي الوحيد القابل للحياة، وأن على الأطراف الإقليمية والدولية أن تتكيّف معه، لا أن تعيد التفاوض على أساسياته. وفي هذا السياق، تصبح زيارة السفير “والتز” جزءًا من عملية تثبيت هذا المسار، أكثر منها مجرّد جولة استماع أو استطلاع.
يركّز البيان على الضفة الأردنية من الجولة، على لقاءات السفير مع الملك عبد الله الثاني ووزير الخارجية أيمن الصفدي، وعلى دور عمّان الحيوي في تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة. ويعكس هذا الوصف واقعًا حقيقيًا إلى حد كبير؛ فالأردن كان تاريخيًا أحد أبرز المعابر السياسية والإنسانية إلى الأراضي الفلسطينية، وهو اليوم شريك أساسي في النقاشات العربية حول ترتيبات ما بعد الحرب، كما أنه يتحمل أعباء ثقيلة في ملف اللاجئين السوريين وضغوطًا اقتصادية داخلية تجعل الاستقرار الإقليمي بالنسبة له مسألة أمن قومي وليست ترفًا دبلوماسيًا. لكنّ ما لا يقوله البيان هو أن عمّان تتحرك في مساحة شديدة الحساسية: فهي من جهة، لا تستطيع التفريط بعلاقتها الاستراتيجية مع واشنطن ولا بدورها في أي ترتيبات تخصّ القدس وغزة والضفة؛ ومن جهة أخرى، تدرك أن الشارع الأردني، ومعه جزء واسع من النخَب، ينظر بكثير من الشك إلى خطة الرئيس “ترامب” وقرار 2803، ويرى فيهما خطر تكريس واقع جديد على حساب الحقوق الفلسطينية. لذلك ستكون لغة اللقاءات على الأرجح -مزيجًا من الترحيب بالتخفيف الإنساني عن غزة، والتحفّظ على أي ترتيبات تمسّ مستقبل القضية الفلسطينية أو الوصاية الهاشمية على المقدسات.
أما الشقّ الإنساني والذي يركّز عليه البيان -مشاورات السفير والتز مع منظمات الإغاثة وتقييم “الجهود المنقذة للحياة”- فهو صحيح في بعده الفني، لكنه يحمل أيضًا بعدًا سياسيًا لا يمكن تجاهله. فجزء من الجدل الدائر اليوم حول خطة غزة يقوم على السؤال: هل تُستخدَم المساعدات الإنسانية كجسر نحو ترتيبات سياسية مقبولة، أم كأداة لتمرير واقع جديد تحت غطاء الإغاثة؟ حيث أن معظم المدافعون عن الخطة يقولون إن تحسين آليات إدخال المساعدات عبر الأردن ومصر وإسرائيل، واعتماد ممرات أكثر انتظامًا، هو شرط ضروري لتثبيت وقف النار وخلق مناخ يسمح بأي عملية سياسية لاحقة. أما المنتقدون، فيعبرون ن خشيتهم أن يتحول الحديث عن الممرات والآليات إلى بديل عن الحديث عن جذور الصراع نفسه: وهو الاتهام بالاحتلال، والحصار، وغياب أفق حقيقي للدولة الفلسطينية.
أما في إسرائيل، تبدو الزيارة أكثر وضوحًا من حيث الهدف المباشر: لقاء رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” والرئيس “إسحاق هرتسوغ”، وزيارة الحدود الشمالية والجنوبية، والاطلاع ميدانيًا على تنفيذ القرار 2803، ثم الوقوف عند معبر كرم أبو سالم وآلية التنسيق والمراقبة لغزة التي تشرف على تنفيذ خطة النقاط العشرين. من وجهة النظر الإسرائيلية -كما تعكسها تصريحات رسمية وتحليلات قريبة من الحكومة- يمثّل هذا المسار فرصة لفكّ الارتباط إداريًا وأمنيًا عن غزة من دون ترك فراغ تُملؤه حماس مجددًا، وذلك عبر نقل جزء من الأعباء إلى قوة دولية وإلى “مجلس سلام” تشارك فيه دول عربية وغربية، مع إبقاء خطوط حمراء أمنية صارمة تتعلق بسلاح الفصائل وبضمان عدم تحوّل غزة مرة أخرى إلى منصّة تهديد صاروخي..
هنا تظهر بوضوح روايتان متعاكستان تقريبًا حول القرار 2803 وخطة الرئيس الأمريكي اذ إن الرواية الأولى، التي تتبنّاها واشنطن وتل أبيب وعدد من العواصم العربية والغربية التي أيّدت القرار، ترى أن ما جرى هو اختراق تاريخي: يتبنّى فيه مجلس أمن خطة مفصّلة لوقف الحرب في غزة، ونشر قوة استقرار دولية، وتشكيل بنية حاكمة انتقالية تتمثل في مجلس السلام ولجنة فلسطينية للحكم اليومي، بإجماع أقرب إلى التوافق منه إلى الفرض، وبمشاركة عربية واسعة، من قطر ومصر إلى السعودية والإمارات، وتركيا، وإندونيسيا، وغيرها. وبالتالي ومن هذا المنظور، تبدو زيارة “والتز” خطوة في مسار استكمال البناء على هذا “الإنجاز”، عبر ضمان تنسيق أعمق مع الأردن وإسرائيل، وشدّ عصب الدول المشاركة في القوة الدولية والآليات المدنية المرتبطة بها.
في حين تنظر الرواية الثانية، التي يعبّر عنها بوضوح جزء من النخب الحقوقية الفلسطينية والدولية، وبعض خبراء القانون الدولي، إلى القرار نفسه باعتباره تكريسًا لوضع استثنائي على حساب حق تقرير المصير الفلسطيني. المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، “فرانشيسكا ألبانيزي”، حذّرت من أن القرار 2803 بصيغته الحالية يخاطر بأن يحوّل غزة إلى منطقة خاضعة لوصاية “مجلس سلام” وقوة استقرار دولية، من دون ضمانات كافية لإنهاء الاحتلال ولتمكين الفلسطينيين من ممارسة سيادتهم الكاملة على الإقليم. وذهبت منظمات نسوية وحقوقية، مثل “ويلبف” وغيرها، أبعد، واعتبرت أن الخطة برمّتها إعادة إنتاج لـمنطق الانتداب في ثوب جديد: حيث تُزال السيطرة الإسرائيلية المباشرة جزئيًا، لكن يُستبدَل بها نظام دولي إقليمي يملك مفاتيح الأمن والتمويل والقرار النهائي. من هذا المنظور، تصبح جولات السفير “والتز” في كرم أبو سالم أو مراكز التنسيق جزءًا من بنية يُخشى أن تطول، لا مجرّد ترتيبات مؤقتة.
أما على الأرض، فإن الآليات التي يشير إليها البيان -معبر كرم أبو سالم وآلية “سي-ام-سي-سي” تجسد جانبًا من هذا الجدل. فالمدافعون عنها يرون أن وجود منظومة تنسيق ومراقبة متعددة الأطراف لإدخال المساعدات والبضائع إلى غزة هو تقدم على وضع كانت فيه إسرائيل وحدها تتحكم في حركة ما يدخل ويخرج، وأن إشراك الأمم المتحدة ودول عربية وغربية في إدارة هذه العملية يزيد الشفافية ويقلل من إمكان استخدام الحصار أداة ضغط سياسي. بينما يشير المنتقدون، في المقابل، إلى أن أي آلية لا تضع سقفًا زمنيًا واضحًا للمرحلة الانتقالية، ولا تضمن انتقالًا فعليًا للسلطة والموارد إلى جهة فلسطينية شرعية تمثيلية، مهددة بأن تتحول من تدبير مؤقت إلى نظام دائم بحكم الأمر الواقع، كما حدث في تجارب دولية أخرى خضعت لفترات وصاية أممية طويلة.
يتوقف البيان أيضًا عند لقاء مقرر بين “والتز” والقائم بأعمال المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، “راميز ألاكبروف”، لمناقشة دور مكتب الأمم المتحدة في دعم الجهود الإنسانية وتعزيز السلام. وبالتالي تتجلى قراءة مستويين: مستوى فني يتصل بتنسيق الأدوار بين واشنطن والأمانة العامة للأمم المتحدة في إدارة المرحلة الانتقالية في غزة، ومستوى سياسي يتصل بمحاولة الإدارة الأميركية إعادة تعريف عملية السلام نفسها لتتمحور حول خطة الرئيس “ترامب” والقرار 2803، بدل الأطر التقليدية التي كانت تقوم على مرجعيات أوسلو، ومبادرة السلام العربية، وقرارات سابقة لمجلس الأمن. وهذه النقطة تحديدا تعتبر بأنها أحد أسباب الانقسام داخل المنظومة الأممية ذاتها، حيث يرى بعض المسؤولين والخبراء أن القرار 2803 يذهب بعيدًا في تبنّي مقاربة أميركية/إسرائيلية، بينما يرى آخرون أنه الإطار الواقعي الوحيد القابل للتنفيذ في ظل موازين القوى الحالية.
في خاتمة البيان، تُنسَب إلى البعثة الأميركية عبارة ذات دلالة سياسية وهي ان: الزيارة تعكس التزام الرئيس “ترامب” الثابت بإنهاء النزاعات المستعصية وتحقيق مستقبل يسوده السلام والازدهار في الشرق الأوسط. من خلال اعتماد أنصار الإدارة بما يعتبرونه حصيلة ملموسة من وقف إطلاق نار في غزة بعد حرب دامية، وقرار أممي غير مسبوق يمنح شرعية لخطة أميركية، الى جانب تشكيل قوة استقرار دولية بمشاركة عربية وإسلامية، ومسار موازٍ لاتفاقات تطبيع وتعاون اقتصادي في الإقليم، من غزة إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي. وبالتالي تكون زيارة “والتز” حلقة في سياق متماسك يُراد له أن يضع حدًا لحروب متكررة عبر إدارة أمنية وسياسية جديدة.
في حين من الجهة المقابلة، يرى منتقدو هذا المسار أن ربط الزيارة بإنهاء النزاعات المستعصية ينطوي على قدر كبير من التسويق السياسي. أما الواقع على الأرض، كما يقولون، ما زال هشًا: فوقف إطلاق النار في غزة مهدّد في أي لحظة بانهيار إذا تعثرت ترتيبات نزع سلاح حماس أو جرى خرق من هذا الطرف أو ذاك؛ والضفة الغربية تشهد توترًا متصاعدا، والجانب اللبناني على حافة اشتباك أوسع؛ والملف الإيراني، الذي يتداخل مع كل هذه الساحات يبقى بعيدا عن أي تسوية مستقرة. أما في البعد الفلسطيني الداخلي، فهناك قوى رئيسية من حماس إلى قطاعات واسعة من المجتمع المدني ترفض خطة الرئيس الأمريكي “ترامب” والقرار 2803 جملةً وتفصيلًا، وترى أنهما يتجاهلان لبّ المشكلة. ومن هذه الزاوية، تبدو زيارة والتز جزءًا من محاولة تثبيت واقع جديد أكثر مما تبدو خطوة على طريق حل جذري للنزاع.
بين هاتين الرؤيتين المتعارضتين، يبقى المؤكد أن زيارة المندوب الأميركي إلى عمّان وتل أبيب تحمل وزنًا يتجاوز البروتوكول، فهي اختبار أول لقدرة خطة غزة وقرار 2803 على الصمود في مواجهة أسئلة التطبيق: كيف ستعمل قوة الاستقرار الدولية على الحدود وفي داخل القطاع؟ إلى أي مدى ستُحترَم القيود المفروضة على استخدام القوة؟ من سيتحكم فعليًا في المعابر والحركة الاقتصادية؟ وكيف سيتوزع النفوذ بين مجلس السلام واللجنة الفلسطينية والسلطة القائمة في رام الله؟ و بالمعنى: هذه الأسئلة، وغيرها كثير، ستجيب عنها وقائع الأشهر المقبلة على الأرض، وما إذا كانت غزة والمنطقة بأكملها ستتجه نحو سلام وازدهاركما يعد البيان، أم نحو مرحلة جديدة من إدارة النزاع.



