وائل عزب.. راوي الأسرار المنسية وحارس ذاكرة الإسكندرية

✍️ أحمد محارم
في مدينة مثل الإسكندرية، لا تكفي الكتب وحدها لفهمها، ولا تكفي الحكايات العابرة لتلخيصها، تحتاج إلى شخصٍ يعيد ترتيب الذاكرة، ويلتقط ما فاتنا أن ننتبه له من تفاصيل، ويعيد للمدينة صوتها حين تُصاب بالصمت. ذلك ما وجدتُه تمامًا في وائل عزب، رجل يسكنه التاريخ، وتسكنه الحكايات، كأنما كُتب عليه أن يكون أرشيفًا نابضًا للمدينة التي لا تنام.
برفقة صديقي وأخي العزيز، الكاتب والناشر الأستاذ هشام المغربي، كنت على موعد مع لحظة استثنائية، حين جمعنا لقاء خاص في مكتب الأستاذ وائل عزب بمدينة الإسكندرية. لم يكن مجرد لقاء عابر بقدر ما كان عبورًا إلى عالم موازٍ، إلى شرفةٍ مفتوحة على زمنٍ آخر، وإلى وجوهٍ وأسماءٍ وأحداثٍ تحتشد داخل ذاكرته كما لو أنها حدثت بالأمس فقط.
الحديث معه يبدأ بسيطًا، لكنه لا ينتهي. يفتح لك بابًا خلفه أبواب، ويقودك في رحلة تمشي فيها بين الحاويات والموانئ، ثم تجد نفسك فجأة داخل وجدان مدينة بأكملها. يحكي عن بداياته في مجال الملاحة والتوكيلات التجارية، حيث لم تكن الصدفة مجرد حدث، بل بوابة عبور إلى حياة كاملة. أول تجربة له كانت مع مجموعة من الحاويات وصلت إلى ميناء الإسكندرية فارغة، وكان من الأرخص أن تبقى بدلاً من إعادتها إلى إيطاليا، وهنا تدخّل وائل عزب بحسّه الإنساني قبل التجاري، ووافق على شرائها، لم يكن يعلم أن هذه الخطوة ستفتح له أبوابًا أخرى، وتقوده إلى علاقة عمل راقية مع سيدة إسبانية كانت ترى فيه مثالًا للنزاهة والالتزام، حتى إنها حضرت إلى الإسكندرية والقاهرة ضيفة عليه.
لكن الوجه الأعمق من وائل عزب ليس في تجارته، بل في ذاكرته. ذاكرته التي تحفظ للمدينة أسرارها، وأسماء أعلامها، وملامح زمنها.
لم يكن مؤرخًا كلاسيكيًا، بل شاهدًا حيًا يعيد كتابة المشهد بعيون من عاشه، لا من قرأه. مجالسه ليست مجرد حديث، بل أرشيف حيّ، وامتداد طبيعي لروح المدينة نفسها.
ولعل ما يميّز تجربته أكثر، هو ذلك الإخلاص النادر في التوثيق، والتواضع العميق في السرد، لا يضع نفسه في واجهة الحكاية، بل يجعل من ذاته جسراً نعبر من خلاله إلى ماضٍ نحتاجه لنفهم الحاضر، فهو رجل يتعامل مع التفاصيل الصغيرة كما يتعامل الرسام مع الظلال؛ يعرف أنها تصنع الصورة، وتمنحها المعنى.
وائل عزب لا يمكن اختزاله في مهنة أو صفة واحدة. هو حكاية تمشي على قدمين فقد جعل من الصدفة مَدخلًا إلى المعرفة، ومن عمله سجلًا مفتوحًا لتاريخ مدينة لا تنفد أسرارها.
في حضرته، تدرك أن الإسكندرية لا تُقرأ من الكتب فقط، بل تُقرأ من أعين من أحبّوها، وعاشوا في تفاصيلها، وكتبوا عنها بما يشبه الوفاء.
وإن كان اللقاء به قد بدأ بصدفة، فقد انتهى بيقين: أن بعض البشر لا يعيشون في التاريخ، بل هم من يصنعونه.