تونس والأمم المتحدة… دبلوماسية التوازن بين المثال والواقع

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
منذ أن رفرف علم تونس في نيويورك عام 1956، عقب استقلالها عن فرنسا مباشرة، أرادت الدولة الصغيرة أن تجعل من الأمم المتحدة نافذتها الأولى على العالم ومظلتها لحماية سيادتها في مواجهة التقلبات الإقليمية والدولية. فبلد لا يتجاوز عدد سكانه اليوم 12 مليون نسمة ولا تزيد مساحته عن 164 ألف كيلومتر مربع لا يمكنه أن ينافس بالقوة العسكرية أو بالثقل الاقتصادي، لكنه يستطيع أن يستند إلى الشرعية الدولية والقانون الأممي ليحجز لنفسه مكانًا بين الكبار. ولهذا، انخرطت تونس منذ البداية في القضايا الكبرى التي عُرضت على الأمم المتحدة، فاصطفت مع حركات التحرر في إفريقيا وآسيا، ودعمت القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية للعالم العربي، وشاركت في صياغة خطاب دولي يوازن بين مبادئ السيادة الوطنية ومطالب العدالة.
مع مرور العقود، حافظت تونس على صورتها كدولة معتدلة تسعى إلى التوفيق بين الكتل المتصارعة في زمن الحرب الباردة، فكانت قريبة من الغرب اقتصاديًا وثقافيًا، لكنها منفتحة في الوقت ذاته على الجنوب العالمي وحركة عدم الانحياز. وفي هذا السياق، قدّمت نفسها لاعبًا سياسيًا لا يتناسب مع صغر حجمها الجغرافي، بل مع براعتها الدبلوماسية. غير أن أبرز تحولات صورتها جاءت بعد عام 2011، حين تحولت تونس إلى مهد لثورات شعبية اندلعت آنذاك وحملت مسمى “الربيع العربي” ونجحت في الإطاحة بنظام امتد لأكثر من عقدين لتشرع في مسار ديمقراطي جعلها محط أنظار العالم. لم تتأخر الأمم المتحدة في مساندة هذا التحول، ففتحت المفوضية السامية لحقوق الإنسان مكتبًا لها في تونس، وأشاد مجلس حقوق الإنسان بدستور 2014 الذي وُصف بأنه الأكثر تقدمًا في المنطقة العربية من حيث الحقوق والحريات. وفي تلك السنوات، بدت تونس وكأنها الاستثناء العربي الذي أعطى للأمم المتحدة قصة نجاح نادرة يمكن أن تُروى.
لكن هذه الصورة لم تدم طويلًا، إذ دخلت البلاد بعد 2021 مرحلة جديدة مع قرارات الرئيس قيس سعيّد بتجميد البرلمان وإعادة صياغة النظام السياسي، وهو ما اعتبرته تقارير أممية ومنظمات حقوقية تراجعًا عن مكتسبات الديمقراطية. في أروقة جنيف ونيويورك، انتقل النقاش حول تونس من الاحتفاء بتجربتها إلى القلق بشأن مسارها، لتجد نفسها مرة أخرى بين المثال والواقع: نموذج تقدمي على الورق وتحديات سياسية واقتصادية في الميدان.
ورغم محدودية جيشها وعدد أفراده الذي لا يتجاوز 36 ألفًا، لم تغب تونس عن عمليات حفظ السلام، فأرسلت قوات إلى الكونغو وكمبوديا ودارفور، وشاركت بفاعلية في قوات اليونيفيل بجنوب لبنان. منحتها تلك المشاركات مصداقية في الأمم المتحدة باعتبارها مساهمًا في الأمن الجماعي حتى وإن لم تكن قوة عظمى. وعلى المستوى الإقليمي، ظلت ليبيا الملف الأكثر قربًا وحساسية، إذ استقبلت تونس مئات آلاف اللاجئين بعد سقوط نظام “معمر القذافي” واحتضنت جولات الحوار السياسي بين الفرقاء الليبيين برعاية الأمم المتحدة، محاولة أن تكون وسيطًا نزيهًا يحمي في الوقت نفسه مصالحه الوطنية. وفي القضية الفلسطينية، ظلت تونس وفيّة لتاريخها، فاستثمرت عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن خلال الفترة الممتدة لسنة 2020/2021 للدفع بمشاريع قرارات تدين الاستيطان وتؤكد على حل الدولتين، حتى لو اصطدمت بالفيتو الأميركي. أما في السودان، فقد التزمت تونس بخط دعم كل مبادرة أممية لوقف الحرب ومساعدة المدنيين.
لكن التحدي الأكبر الذي يواجه تونس اليوم ليس في أروقة الأمم المتحدة بقدر ما هو في الداخل. حيث تعيش أزمة اقتصادية خانقة: اذ يتجاوز دينها الخارجي ال 40 مليار دولار، كما ناهز عجز ميزانيها ال 8% من الناتج المحلي، وتتجاوز البطالة فيها ال 15%. فجعل هذا الوضع تونس أكثر اعتمادًا على وكالات الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، من برنامج الغذاء العالمي إلى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومن البنك الدولي إلى صندوق النقد. ومع ذلك، يحاول هذا البلد الصغير أن يعرض نفسه كشريك ملتزم بالإصلاح والتنمية، لا مجرد متلقٍ للمساعدات، مدركا أن صورة تونس في الخارج تتأثر بقدرتها على ضبط توازنها الاقتصادي في الداخل.
أعطت تجربة العضوية الأخيرة في مجلس الأمن لتونس فرصة لإبراز صوتها، لكنها في الوقت ذاته كشفت حدود قدرتها. فقد دافعت عن فلسطين، وأيدت الحلول السياسية في ليبيا واليمن، لكنها وجدت نفسها عاجزة أمام تعقيدات الفيتو والصفقات بين القوى الكبرى. ومع ذلك، كان حضورها إشارة واضحة إلى أن الدول الصغيرة يمكن أن تُسهم في صياغة النقاش الأممي إذا امتلكت رؤية واضحة وصوتًا مستقلًا.
وبذلك تبد وعلاقة تونس بالأمم المتحدة اليوم: مسيرة طويلة تجمع بين الطموح والقيود، بين صورة الدولة المعتدلة التي تبحث عن الشرعية الدولية وبين واقع داخلي مأزوم يعيد رسم ملامح حضورها. فهي من جهة قصة بلد استطاع أن يُقنع العالم يومًا بأنه ممكن أن يزهر ديمقراطية في الصحراء، ومن جهة أخرى واقع يهدد بأن تتآكل هذه الزهرة تحت ضغط السياسة والاقتصاد. ومع ذلك، تظل تونس حاضرة في الأمم المتحدة بصفتها صوتًا يبحث عن التوازن، يتأرجح بين المثال والواقع، لكنه لا ينكفئ ولا يغيب، مؤمنًا بأن مكانه محفوظ في صرحٍ وُجد ليعطي حتى للصغار مقعدًا على الطاولة الدولية.
المقال ١٣: زينة بلقاسم



