مالي تحت الحصار: بين نيران الجهاديين وحسابات العسكر وألعاب الظلّ الدولية

FYE – HN – UN

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

تعود مالي، قلب منطقة الساحل الإفريقي، إلى واجهة الأحداث في هذه المرحلة ليس بوصفها مهداً للموسيقى والثقافة في “تمبكتو”، بل كدولةٍ تبدو وكأنها «محاصَرة» من الجهات الأربع: جماعات مسلّحة تطوّق المدن وتغلق الطرق والمدارس، وسلطة عسكرية تمسك بمفاصل الدولة، وقوى إقليمية ودولية تتحرّك في الخلفية، تارةً تحت شعار مكافحة الإرهاب، وتارةً باسم السيادة ومحاربة «الاستعمار الجديد». وفي النهاية، يجد المواطن المالي نفسه في عين عاصفة لم يصنعها، لكنه يدفع ثمنها كل يوم.

فمنذ اندلع تمرّد الطوارق في الشمال ذ سنة ألفين واثنتي عشرة، واستغلت الجماعات المتشددة الفراغ لتمدّ نفوذها، دخلت مالي في حربٍ مفتوحة لم تهدأ. فتحوّل الشمال إلى ساحة صراع بين حركات طوارقية مسلّحة وتنظيمات مرتبطة بالقاعدة وتنظيمات موالية لما يُسمّى تنظيم الدولة، ثم جاء اتفاق الجزائر بعد ذلك بسنوات ليجمّد جزءاً من المواجهة من دون أن ينزع فتيل النزاع من جذوره. السنوات اللاحقة لم تحسم شيئاً: لا الدولة استعادت هيبتها بالكامل، ولا الحركات المتمرّدة سلّمت بسلاحها، ولا الجماعات المتشددة اختفت من المشهد.
في قلب هذه الفوضى، دخلت القوى الغربية بثقلها تحت عنوان «مكافحة الإرهاب». فرنسا قادت العمليات العسكرية لسنوات، مدعومةً من دول أوروبية ومنظومة دولية أوسع، لكن الحصيلة بعد قرابة عقد كانت ثقيلة على الجميع: كلفة بشرية ومالية عالية، ومساحات واسعة من البلاد ما زالت خارج السيطرة، وانتقادات داخل مالي تتهم باريس بتكريس نفوذ عسكري من دون حلول سياسية حقيقية. ومع تصاعد الغضب الشعبي والانقلابات المتتالية في باماكو، أعلنت فرنسا إنهاء وجودها العسكري، لتغادر آخر وحداتها عام ألفين واثنين وعشرين، تاركةً فراغاً لم يملأه السلام، بل لاعبون جدد.
بالتوازي مع ذلك، قرّر مجلس الأمن إنهاء مهمة بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام بناءً على طلب صريح من السلطات المالية بسحبها «دون تأخير». غادرت قوات حفظ السلام تباعاً، واكتمل الانسحاب في أواخر سنة ألفين وثلاث وعشرين، في مشهدٍ قرأه كثيرون بوصفه إعلاناً عن فشل نموذج التدخّل الدولي في تثبيت الاستقرار. ومع خروج القوات الفرنسية وقوات الأمم المتحدة، تراجعت الأضواء الدولية، لكن الخطر لم يتراجع؛ بل تحوّلت البلاد إلى مسرحٍ مفتوح أمام الفاعلين الجدد، وأمام تصعيد الجماعات المسلّحة.
على هذه الأرضية، برز الحضور الروسي كلاعب رئيسي. السلطة العسكرية في باماكو، التي وصلت إلى الحكم عبر انقلابين متتاليين، التفتت نحو موسكو بحثاً عن حليفٍ بديل بعد تدهور علاقاتها مع العواصم الغربية. دخلت عناصر تابعة لشركات عسكرية خاصة روسية، وشاركت في عمليات واسعة إلى جانب الجيش المالي، خصوصاً في الشمال، حيث أُعيدت السيطرة على مدن إستراتيجية مثل كيدال من أيدي تحالف حركات الطوارق. لكن هذه العمليات صاحبتها اتهامات ثقيلة بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين وعمليات قتل خارج القانون في الوسط والشمال، ما جعل شعار «مكافحة الإرهاب» محاطاً بأسئلة صعبة حول ثمنه الإنساني.
ومع تقدّم السنوات، أُعلن رسمياً عن انسحاب التشكيلات العسكرية الروسية غير الرسمية من مالي، لكن هذا الانسحاب بدا أقرب إلى إعادة تموضع منه إلى خروج حقيقي. فالقوات المرتبطة بالدولة الروسية، بأسماء وهياكل جديدة، واصلت تثبيت حضورها، وتدفّقت قوافل من العربات والمركبات العسكرية الحديثة إلى مالي عبر موانئ دول مجاورة، في ما يشبه تكريساً لحضورٍ طويل الأمد يجعل من البلاد نقطة ارتكاز لاستراتيجية روسية أوسع في منطقة الساحل. الظاهر هو دعم النظام في باماكو ضد الجماعات المسلّحة، أما الباطن فهو تنافس دولي على النفوذ في منطقة غنية بالموارد ومطلّة على فضاء جغرافي حيوي.
غير أنّ تبدّل الأعلام على العربات العسكرية لا يغيّر الكثير في حياة الناس. تقارير ميدانية وحقوقية تحدّثت عن تصاعد الانتهاكات من الطرفين: الجماعات المتشددة تهاجم القرى، وتفرض حصاراً على الطرق المؤدية إلى العاصمة، وتستهدف المدارس والبنى التحتية، في ما يشبه حالة «حصار زاحف» على باماكو والمدن الكبرى. في المقابل، تنفّذ القوات الحكومية وحلفاؤها ضربات جوية وعمليات برية تسببت في مقتل مدنيين وزعماء محليين من الطوارق وغيرهم، ما فاقم شعور شرائح واسعة في الشمال والوسط بأن الحرب لا تُخاض فقط ضد المتشددين، بل ضد مكوّنات اجتماعية بأكملها.
في الخلفية، تتحرك أيضاً دول الجوار. الجزائر، التي رعت اتفاق السلام قبل سنوات وسعت طويلاً للعب دور الوسيط بين باماكو والطوارق، تجد نفسها اليوم أقل تأثيراً في ظلّ اتهامات متبادلة وشكوك حول مقاربتها لبعض القيادات المسلحة، وهي في الوقت نفسه تخشى من تمدّد الفوضى نحو حدودها الجنوبية. دول أخرى في المنطقة، مثل موريتانيا ودول في خليج العرب وتركيا، تراقب وتناور عبر قنوات دبلوماسية واقتصادية وأمنية، باحثة عن موطئ قدم في فضاء ساحلي يشهد إعادة رسم خرائط النفوذ.
على مستوى المنظومة الإفريقية، اتّخذت مالي منحىً تصادمياً مع الهياكل الإقليمية التقليدية. فقد أعلنت، إلى جانب بوركينا فاسو والنيجر، انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، قبل أن يُكرَّس الخروج رسمياً ويُعلن عن قيام «تحالف دول الساحل» ككتلة جديدة ترفع شعارات السيادة ورفض التدخل الخارجي، لكنها عملياً تبتعد عن آليات الضغط الإفريقية التقليدية وتقترب أكثر من مظلة الدعم الروسي. ثم جاءت قرارات الانسحاب من منظمة دولية ناطقة بالفرنسية، ولاحقاً من المحكمة الجنائية الدولية، لتؤكد مسار القطيعة التدريجية مع فضاءٍ كان يُعتبر لعقود امتداداً طبيعياً لفرنسا والغرب في غرب إفريقيا.
نحن إذن أمام لوحة معقّدة: من جهة، قادة عسكريون في باماكو يستثمرون في خطاب السيادة ورفض «الوصاية» الغربية، ويقدّمون الشراكة مع قوى أخرى باعتبارها استعادةً للقرار الوطني. من جهة ثانية، عواصم غربية تستمر في التأثير عبر قنوات غير مباشرة، من تدريب وتسليحٍ لبعض الجيوش المجاورة، إلى الضغط الدبلوماسي والاقتصادي، مروراً بالمساعدات الإنسانية المشروطة. ومن جهة ثالثة، قوى دولية صاعدة ترى في فراغ النفوذ الغربي فرصةً لملء الفراغ، فتدخل بثقلها العسكري والسياسي في بلدٍ هشّ يدفع ثمن هذه التجاذبات فوق ميدان واحد: حياة الناس اليومية.
اللاعبون في هذا المشهد ليسوا الدول فقط. هناك أيضاً نخب سياسية واقتصادية في المنطقة تستخدم خطاب «طرد الاستعمار» لكسب شرعية داخلية، ثم تعقد في الكواليس تفاهمات مع أطراف خارجية، غربية كانت أو شرقية، لضمان بقاء السلطة أو تدفق الدعم. وهناك جماعات مسلّحة تقدّم نفسها كمدافعة عن الهوية والدين والقبيلة، لكنها تتحرّك أحياناً بمرونة لافتة بين التحالفات، فتقاتل اليوم تحت راية، وغداً تحت راية أخرى، في لعبةٍ معقّدة يحضر فيها المال والسلاح والأيديولوجيا في آنٍ واحد.
في المحصّلة، تبدو مالي اليوم «تحت الحصار» بثلاث حلقات متداخلة: حصار تفرضه الجماعات المتشددة على الطرق والمدن والقرى، وحصار تمارسه السلطة العسكرية على المجال السياسي والحريات المدنية، وحصار غير مرئي تشكّله صفقات السلاح والتحالفات الدولية التي تُعقد بعيداً عن أنظار المواطن البسيط. بين هذه الحلقات، تتقلّص مساحة المدرسة والمستشفى والسوق والقرية، وتتّسع مساحة الثكنة ونقطة التفتيش وقاعدة الطائرات المسيّرة.
ومع أنّ الصورة قاتمة، فإن مستقبل مالي ليس قدراً مغلقاً. المسار يمكن أن يتغيّر إذا تحوّل الحديث عن السيادة من شعارٍ في خطابات النخب إلى واقعٍ يعني بناء مؤسسات خاضعة للمحاسبة، وإذا خرجت مكافحة الإرهاب من عقلية «الحرب المفتوحة» إلى مقاربةٍ تجمع الأمن بالتنمية والمصالحة، وإذا توقّفت القوى الخارجية، أياً كانت، عن اعتبار البلد مجرّد رقعة في لعبة نفوذ كبرى. إلى أن يحدث ذلك، ستبقى مالي مثالاً صارخاً على كيف يمكن لدولة أن تقع في تقاطع نيران ثلاثية: سلاح يرفع راية الدين، وسلاح يرفع راية الدولة، وسلاح يرفع راية المصالح البعيدة عن كل ما يهمّ الناس فعلاً على الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى