“الصحراء تُعيد رسم الخريطة شمال فريقيا

نيويورك – زينة بلقاسم – الأمم المتحدة
في لحظة بدت حاسمة في مسار واحد من أعقد الملفات في شمال إفريقيا، صوّت مجلس الأمن الدولي يوم الحادي والثلاثين من أكتوبر، مجددًا لصالح دعم خطة الحكم الذاتي التي تقدّم بها المغرب كحلٍّ واقعي ونهائي لقضية الصحراء الغربية، في خطوةٍ عززت الموقف المغربي دبلوماسيًا، ووضعت خصومه، وعلى رأسهم الجزائر وجبهة البوليساريو، أمام معادلةٍ سياسية جديدة تتجاوز لغة الشعارات القديمة نحو منطق المصالح والتحالفات. لم يكن التصويت الأممي هذه المرة مجرد إجراءٍ روتيني يُجدد سنويًا، بل جاء في ظل متغيرات إقليمية ودولية متشابكة، رسمت خريطة جديدة لتوازنات القوة في المنطقة المغاربية والعالم العربي.
حرص المغرب منذ أن طرح مبادرته للحكم الذاتي سنة 2007، على أن يُقدّمها بوصفها “خيارًا استراتيجيًا” يضمن وحدة أراضيه، وفي الوقت ذاته يفتح المجال أمام تسوية سياسية تحفظ كرامة السكان المحليين. لكنّ جارتها الجزائر، التي اعتبرت المبادرة محاولة لتكريس الأمر الواقع، تبنّت موقفًا رافضًا لا يقتصر على الدعم السياسي للبوليساريو، بل امتدّ إلى ما يشبه القطيعة الدبلوماسية والاقتصادية وحتى الرياضيًة الكاملة مع الرباط. ومع مرور السنوات، تحوّل الملف من قضية إقليمية إلى ورقة ضغط متبادلة بين محورين: محورٍ مغربيٍ مدعومٍ من قوى غربية وعربية متزايدة، ومحورٍ جزائريٍ يراهن على خطاب “تقرير المصير” بدعمٍ من أطرافٍ محدودة أبرزها جنوب إفريقيا وفنزويلا.
لكنّ ما أعاد الملف إلى دائرة الضوء مجددًا، هو التحوّل في الموقف الدولي. فبعد اعتراف الولايات المتحدة في عهد ولاية الرئيس “دونالد ترامب” الأولى، بسيادة المغرب على الصحراء الغربية أواخر عام 2020، واحتفاظ إدارة “جو بايدن” بالموقف ذاته عمليًا وإن بلغة أكثر دبلوماسية، وجدت الجزائر نفسها أمام واقع جديد يُقلّص من هامش المناورة. وغيّرت أوروبا ببطءٍ أيضًا من لهجتها، فتبنّت مدريد رسميًا مبادرة الحكم الذاتي أما وباريس فأعادت مؤخرًا التأكيد على دعمها “الجاد والواقعي” للمقترح المغربي، فيما فضّلت دول الاتحاد الأوروبي الأخرى الصمت دون الاصطفاف الكامل مع الموقف الجزائري. وهكذا، تغيّر ميزان القوى الدبلوماسي بصورةٍ ملحوظة، وأصبح جليا وكأن الرباط بدأت تحصل على نتائج تكثيفها لسياسةٍ خارجيةٍ مختلفة عم انتهجته في ماض لم يأتها بنتائج مرضية ومنها، وما يرجح المحللين، اعتمادها على بناء التحالفات مع القوى الدولية.
و في وقت عملت المملكة المغربية على تقوية روابطها مع واشنطن وتل أبيب و الدول الأوروبية، مستثمرةً الاتفاقيات الأمنية والتكنولوجية التي أعقبت اتفاق التطبيع، أصبحت بعده لاعبًا أمنيًا مهمًا في شمال إفريقيا وفي مراقبة الممرات الأطلسية
من جهتها، ردّت الجزائر التركيز على تنشيط حركتها السياسية وبناء تحالفاتها في تنشيط كل المجالات المتعلقة بالطاقة والتسلح. فاستثمرت في ارتفاع أسعار الغاز بعد الحرب الأوكرانية لتثبيت حضورها كشريكٍ استراتيجي لأوروبا، ووقّعت عقودًا دفاعية كبرى مع موسكو وبكين، مؤكدةً أنها “لن تتخلى عن دعم الشعب الصحراوي”. ويثيرالتحالف الثلاثي بين الجزائر وروسيا والصين، وإن لم يُعلن رسميًا كمحورٍسياسيٍ واضح، قلق الرباط والعواصم الغربية التي ترى فيه عودةً لنفوذٍ مضادٍ في جنوب المتوسط..
وللمتأمل من قريب، يبد والمشهد اليوم أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. فالعلاقات بين الرباط والجزائر لم تعد مجرّد خلافٍ حدودي، بل تحوّلت إلى صراعٍ رمزي على الزعامة الإقليمية حيث الأسئلة البديهية أصبحت: من يملك المبادرة؟ ومن يحدّد ملامح الأمن المغاربي؟ وباختلاف المسارين الجزائري والمغربي في التعامل بخصوص هذا الملف والتوصل الى اتفاق أخوي يرضي الجميع، يضيع حلم التكامل المغاربي الذي كان يومًا ما مشروعًا واقعيًا.
ومع أن مجلس الأمن في قراره الأخير دعا جميع الأطراف إلى استئناف المفاوضات “بروحٍ من الواقعية والتسوية”، فإن الرسائل السياسية المضمرة كانت واضحة بأن: المجتمع الدولي بات يميل إلى الحل المغربي أكثر من أي وقتٍ مضى، حيث النظام الدولي تغيّر بفعل الحرب في أوكرانيا وبأن صعود الأزمات الطاقوية لم يعد يحتمل نزاعاتٍ مجمّدة طويلة الأمد، وبأنه في الوقت الراهن يركز، بل ويسعى جاهدا إلى تحقيق استقرارٍ جغرافيٍّ يخدم مصالح القوى الكبرى. من هنا، فإن ما جرى في نيويورك، اعتبر تتويجا لمسار دبلوماسي للمغرب فيما يظهر أنه اقتناع بتحولٍ استراتيجي في توازنات العالم عامة وشمال إفريقيا من ضمنه.
لكن وفي خلفية هذا المشهد ومع دعوة ملك المغرب أشقاءه الجزائريين الى التحاور، يبقى السؤال الأهمّ: هل يمكن أن تؤدي هذه الدينامية الجديدة إلى تقاربٍ مغاربيٍّ ولو جزئي؟ أم أن الخلاف بين الرباط والجزائر سيتحول إلى صراعٍ باردٍ دائمٍ على النفوذ والشرعية؟ لا تبد والإجابة قريبة، لكن المؤكد أن رياح المنطقة تغيّرت. وبين من يرى في الحكم الذاتي “نهايةً عادلة” ومن يعتبره “تنازلًا عن المبدأ”، يبدو أن الحقيقة الوحيدة هي أن الملف لم يعد شأنًا محليًا، بل جزءًا من صراعٍ عالمي على نفوذ تُرسم ملامحه في العواصم الكبرى قبل أن تنعكس في رمال الصحراء. فهل يكون التصويت الأممي الأخير بداية نهايةٍ لصراعٍ دام نصف قرن، أم شرارة لمرحلةٍ جديدة من التنافس المغاربي؟ وهل تستطيع الرباط والجزائر تحويل سباق النفوذ إلى شراكةٍ إقليميةٍ حقيقية، أم أن التاريخ سيعيد نفسه بأدواتٍ مختلفة؟ وان كان فأي طريقٍ ستختاره المنطقة: أطريق التكامل الاقتصادي والاتحاد؟ … أم طريق التحالفات المتقابلة والتوازنات الهشّة؟



