بعد سبعون عاماً من الانضمام، مستقبل الأمم المتحدة والتعددية: سؤال أعيد طرحه من دول منضوية

http://FYE – HN – UN

 

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

بعد سبعون عاماً من الانضمام، مستقبل الأمم المتحدة والتعددية: سؤال أعيد طرحه من دول منضوية
شهد الحادي عشر من ديسمبر الجاري اجتماع وفد غير عادي من السفراء والخبراء والطلاب في قاعة المجلس الاقتصادي والاجتماعي المرموقة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، حيث اعتادت الدول أن تناقش قضايا الفقر والتنمية وتمويل المستقبل، ، ليس لمناقشة أزمة بعينها، بل لطرح سؤال أوسع بكثير: أي مستقبل ينتظر التعددية والنظام الأممي نفسه ونحن نقترب من ثمانين عاماً على تأسيس المنظمة؟ المناسبة كانت احتفال ست عشرة دولة بالذكرى السبعين لانضمامها إلى الأمم المتحدة عام ١٩٥٥؛ دول وُلدت عضويتها من رحم تسوية صعبة بين معسكري الحرب الباردة، لكنها اليوم تعود لتقول بصوت واحد إن ميثاق الأمم المتحدة والتعددية ما زالا الإطار الأجدى لحفظ السلم والتعاون الدولي.
وقد دخلت هذه الدول -ألبانيا، النمسا، بلغاريا، كمبوديا، فنلندا، الأردن، إيرلندا، إيطاليا، لاوس، ليبيا، نيبال، البرتغال، رومانيا، إسبانيا، سريلانكا، والمجر- المنظمة قبل سبعين عاماً بحزمة واحدة، في خطوة وصفت آنذاك بأنها اختراق في جدار الجمود بين الشرق والغرب؛ إذ جاء قرار قبولها نتيجة تسوية نادرة بين القوى الكبرى في مجلس الأمن والجمعية العامة، أنهت سنوات من استخدام حق النقض لعرقلة عضوية دول تُحسب على هذا المعسكر أو ذاك.
اليوم تعود هذه المجموعة نفسها إلى الواجهة، لا لتطالب بعضوية جديدة أو امتيازات إضافية، بل لتدافع عن فكرة بسيطة في جوهرها تتمثل في أن العالم، مهما تغيرت خرائط القوة فيه، ما زال يحتاج إلى منصة جامعة، وإلى ميثاق مشترك، وإلى قواعد متفق عليها لإدارة الخلافات والتحديات العابرة للحدود.
حمل اللقاء الذي أدارته الصحفية “ميشيل نيكولز” من وكالة رويترز، طابعاً حوارياً أكثر منه بروتوكولياً؛ فإلى جانب السفراء، جلس في المنصة ثلاثة من أبرز المحللين في شؤون السياسات الدولية وعمل الأمم المتحدة وهم: السفير مارتن كيماني من “أفريكا سنتر”، و”منه-تو فام” من مؤسسة كارنيغي، و”ريتشارد غوان” من مجموعة الأزمات الدولية. وفي تفاعل مباشر مع الحضور، تبادل الثلاثة قراءات مختلفة لكن متقاطعة حول السؤال نفسه: كيف يمكن لنظام تعددي تأسس في لحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية أن يتكيّف مع عالم اليوم، حيث تتشابك أزمات المناخ والذكاء الاصطناعي والصراعات المسلحة والأزمات المالية، وحيث تنقسم القوى الكبرى حتى على تعريف “السلام” و“التنمية”؟
لخّص ممثل إيطاليا، السفير” ماصاري”، الذي كان من المحرّكين الأساسيين لهذه المبادرة، روح اللقاء بجملة بدت وكأنها العنوان غير الرسمي للمؤتمر: “نحن ست عشرة دولة مختلفة، جئنا إلى الأمم المتحدة نتيجة تسوية بين القوى الكبرى في توازن ما بعد الحرب، لكننا أثبتنا أننا نتشارك رؤية واحدة ما زالت حية حول أهمية الأمم المتحدة والميثاق والتعددية لضمان السلام ومستقبل التعاون الدولي”. فأعادت هذه العبارة، في بساطتها، ربط الحاضر بالماضي: حيث أن الدول التي كانت ذات يوم موضوعاً لتجاذب القوى العظمى، تريد اليوم أن تكون طرفاً فاعلاً في الدفاع عن الإطار المؤسسي الذي مكّنها أصلاً من الجلوس على الطاولة نفسها.
ومن بين المحاور التي طُرحت بقوة في النقاش، ملف إصلاح النظام المتعدد الأطراف في ضوء “مبادرة الأمم المتحدة ٨٠” التي أطلقها أمينها العام “أنطونيو غوتيريش” هذا العام؛ وهي خطة واسعة لإعادة هيكلة منظومة الأمم المتحدة، كتقليص النفقات، ودمج بعض الوكالات والبرامج، في محاولة لجعل المنظمة أكثر رشاقة وقدرة على مواجهة أزمات متزايدة بموارد أقل. ويعتبر التحدي، كما شرحه الخبراء، مزدوج: فمن جهة، يواجه النظام الأممي أزمة سيولة غير مسبوقة نتيجة تأخر أو توقف مساهمات بعض الدول الكبرى، ما يفرض تقليصاً قسرياً في الميزانيات، ومن جهة أخرى، تُتهم المنظمة بالبيروقراطية والبطء والتشتت بين عشرات الكيانات والولايات المتداخلة، ما يجعل من الصعب إقناع دافعي الضرائب في العالم بأن هذه المؤسسة تستحق كل ما يُنفق عليها.
لكن النقاش لم يقف عند حدود الأرقام والجداول التنظيمية؛ بل انسحب مباشرة على جوهر التعددية ذاتها. فهل يؤدي تقليص الهياكل والميزانيات إلى منظمة أكثر فعالية، أم إلى أمم متحدة مصغّرة تميل إلى التركيز على الأزمات التي تهم القوى الأكبر فقط؟ وقد حذر بعض المتحدثين من أن يتحول إصلاح ” الأمم المتحدة ٨٠” إلى مجرد تمرين تقشّف يطيح بالقدرة العملياتية للمؤسسة، خاصة في مجالات حقوق الإنسان والتنمية، التي تعاني أصلاً من ضعف التمويل مقارنة بعمليات السلام والأمن. وفي المقابل، رأى آخرون أن لحظة الضغط المالي قد تكون فرصة تاريخية لطرح أسئلة لم يكن ممكناً طرحها في أوقات البحبوحة: هل نحتاج فعلاً إلى هذا العدد من الكيانات المتشابهة؟ هل يمكن توحيد الجهود الإنسانية في وكالة واحدة أكثر تماسكاً؟ هل يمكن استخدام التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي لتقليل الكلفة الإدارية وتوجيه مزيد من الموارد مباشرة إلى الميدان؟
هنا ظهر محور ثانٍ في النقاش يتعلق بتأثير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي على أجندة التنمية العالمية. فالخبراء أشاروا إلى أن التقنية نفسها التي تهدد بتوسيع الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية -من خلال تمركز القدرات والحوسبة والبيانات في عدد محدود من المراكز- يمكن أن تكون أيضاً أداة لتمكين منظومة الأمم المتحدة إذا أحسنت استخدامها: من تحليل بيانات الكوارث والأوبئة بشكل أسرع، إلى مراقبة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، إلى تحسين شفافية العمل الأممي نفسه. لكن هذا الاستخدام الإيجابي لن يتحقق تلقائيا، بل يحتاج إلى استثمارات في البنية الرقمية في الجنوب العالمي، وإلى أطر أخلاقية وتنظيمية تحول دون تحوّل نظم الذكاء الاصطناعي إلى أدوات مراقبة أو تمييز أو تضليل سياسي.
من الجدير بالانتباه أن النقاش لم يجرِ بين الدبلوماسيين وخبراء المراكز البحثية فقط؛ فالقاعة ضمت أيضاً ممثلين عن منظمات المجتمع المدني، وطلاب جامعات وطالبات ثانويات حضروا ليستمعوا ويطرحوا الأسئلة. وحين تحدّث ممثل إحدى الدول عن “أزمة ثقة” متزايدة بين الشعوب والمؤسسات الدولية، كانت مداخلات الشباب حاضرة لتذكّر بأن المشكلة ليست فقط في نقص الموارد أو بطء الإجراءات، بل أيضاً في الإحساس بأن القرارات تُتخذ في عواصم بعيدة عن الناس العاديين. طالب بعضهم بأن يكون للشباب والمجتمعات المحلية دور منتظم في صياغة السياسات الأممية، لا أن يُستدْعوا فقط كجمهور في المناسبات الاحتفالية.
و قد أعاد هذا الحضور الشبابي ضبط زاوية النظر: فالتعددية ليست مجرد صيغة للتنسيق بين الدول، بل فضاء أوسع ينبغي أن يتسع للأجيال الجديدة، وللشركات الناشئة، والباحثين، والنشطاء، وكل من سيتأثر فعلياً بالقرارات المتعلقة بالمناخ والتقنية والأمن. وبالتالي ومن هذه الزاوية، بدا الاحتفال بالذكرى السبعين لانضمام الدول الست عشرة أقلّ ارتباطاً بالماضي وأكثر توجهاً إلى المستقبل: كيف نضمن أن يبقى النظام الأممي قادراً على تمثيل عالم أكثر تنوعاً وترابطاً من عالم ١٩٥٥، وأن يتجاوز الإرث الثقيل للحرب الباردة نحو تعددية أكثر شمولاً ومرونة؟
لم يغِب البعد الرمزي عن الحدث؛ فقد تم خلال اللقاء الكشف عن طابع تذكاري خاص أصدرته الأمم المتحدة إحياءً للذكرى، إلى جانب معرض رقمي لصور تاريخية توثق مسيرة هذه الدول الست عشرة داخل المنظمة، كثير منها من أرشيف وكالة الأنباء الإيطالية “أنسا”. وقد عرضت الصور لحظات فارقة شملت: توقيع معاهدات، وجلسات طارئة للجمعية العامة، الى جانب زيارات رؤساء دول، ومشاركة جنود من هذه البلدان في عمليات حفظ السلام حول العالم. وفي خلفية هذا المعرض البصري رسالة ضمنية: أن هذه الدول لم تكن يوماً مجرد أرقام في قائمة العضوية، بل ساهمت فعلياً في العمل الأممي، من المفاوضات النووية إلى عمليات الإغاثة في الكوارث.
و المغزى يقول ان الطابع التذكاري والمعرض الرقمي ليسا مجرد زينة احتفالية؛ فهما يرمزان إلى فكرة أن التعددية هي في جوهرها “ذاكرة مشتركة” بقدر ما هي آلية عمل. فليست الأمم المتحدة فقط قاعات اجتماعات ورسائل رسمية، بل هي أيضاً سجل تراكمي لتجارب دول وشعوب قررت، رغم كل الحروب والنزاعات، أن تبقي على قنوات الحوار مفتوحة. في زمن تتصاعد فيه الدعوات إلى “تجاوز” الأمم المتحدة أو “الاستغناء” عن المنظومة متعددة الأطراف لصالح تحالفات ضيقة أو صفقات ثنائية، يأتي هذا النوع من الفعاليات ليذكّر بأن البديل عن التعددية ليس عالماً أكثر عدلاً أو فعالية بالضرورة، بل عودة إلى منطق القوة العارية حيث يتقدم من يملك القوة العسكرية أو المالية، ويتراجع من لا يملكها.
مع ذلك، لم يَغِب عن مداخلات بعض الحضور التذكير بأن الدفاع عن التعددية لا يعني الدفاع عن كل ما تقوم به الأمم المتحدة أو التغاضي عن فشلها في منع حروب دامية في العديد من الدول كأوكرانيا، أو غزة، أو السودان أو الكونغو.
ولم يكن النقد هنا موجهاً إلى الفكرة في حد ذاتها، بل إلى تطبيقها الناقص؛ فالتعددية التي تُشلّها الانقسامات في مجلس الأمن أو التي تُستخدم فيها أدوات مثل حق النقض لإعاقة قرارات واضحة لحماية المدنيين تفقد جزءاً من شرعيتها الأخلاقية. لذلك دعا بعض المتحدثين إلى ربط إصلاح ” الأمم المتحدة ثمانين” ليس فقط بإعادة هيكلة الأجهزة الإدارية، بل أيضاً بإعادة التفكير في آليات اتخاذ القرار السياسي داخل المنظمة، وبخاصة في مجلس الأمن، حتى لا تبقى المنظمة أسيرة معادلات تعود إلى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية أكثر مما تعكس ميزان القوى الحقيقي اليوم.
في المحصلة، بدا هذا الاجتماع أشبه بتمرين جماعي على “التذكّر والسؤال” في آن واحد من خلال: تذكّر لحظة تاريخية عام ١٩٥٥ حين استطاعت القوى الكبرى، رغم عدائها، أن تتفق على توسيع عضوية الأمم المتحدة لتشمل ست عشرة دولة دفعة واحدة، بما أعطى دفعة قوية لمبدأ عالمية المنظمة؛ وسؤال عن الكيفية التي يمكن بها لهذا المبدأ أن يظل حياً في عالم مثقل بالأزمات وبشعور متزايد لدى الشعوب بأن المؤسسات الدولية بعيدة عن همومهم اليومية.
و كما عبّر سفراء الدول الست عشر عنها، الرسالة بدت واضحة: إذا كان هناك اتفاق بين القوى الكبرى قبل سبعين عاماً أتاح لهذه الدول دخول النظام الأممي، فإن مسؤوليتها اليوم هي أن ترد الجميل للدبلوماسية المتعددة الأطراف، وأن تدافع عن ميثاق الأمم المتحدة لا كشعار للاحتفالات بل كإطار عمل يومي. أما التحدي الأكبر، الذي لم يجرؤ أحد على ادعاء امتلاك جواب سهل له، فهو كيف يمكن ترجمة هذه الرسالة إلى إصلاحات عملية تجعل الأمم المتحدة أقل بيروقراطية وأكثر عدلاً وفاعلية، من دون أن تفقد روحها الأصلية بأن تكون بيتاً مشتركاً، لا نادياً مغلقاً ولا إدارة مقاولات دولية.
وبين شباب جلسوا في شرفة قاعة “الإيكوسوك” يلتقطون الصور لطابع تذكاري ومعرض رقمي، وسفراء أمضوا عقوداً في دهاليز التفاوض، وخبراء يحللون الوثائق والخطط الإصلاحية، بدت الأمم المتحدة في ذلك اليوم كما هي في حقيقتها: مؤسسة مهدَّدة ومتعبة، لكنها ما زالت، برغم كل شيء، المساحة الأوسع التي يملكها العالم لمحاولة التفاهم على قواعد عيش مشترك. وبالتالي، ما فعلته الدول الست عشرة في ذكراها السبعين، هو أنها ذكّرت الجميع بأن التعددية ليست ترفاً نظرياً، بل خياراً صعباً يصبح أكثر إلحاحاً كلما ازداد العالم انقساماً واضطراباً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى