عم إبراهيم وابنه إسلام من باعة صحف إلى أيقونات للإنسانية

 

خاص – أحمد محارم –  عين اخبار الوطن

على امتداد أكثر من نصف قرن، وقف سورٌ حجري بسيط، ملاصق لإحدى فيلات حيّي رشدي وبولكلي في قلب الإسكندرية، شاهداً صامتًا على حكاية مصرية ناصعة، بطلها رجل من الطين والصدق… اسمه عم إبراهيم، ومهنته “بائع جرايد”، لكن جوهره كان أعمق بكثير من مجرد مهنة.

بدأت الحكاية منذ زمن بعيد ، حين وطأت قدما طفلٍ صغير يُدعى إبراهيم، ابن الثامنة، أرض الإسكندرية قادمًا من قلب الصعيد الجواني. لم يكن يحمل حقيبة ولا شهادة، بل حمل على ظهره الفقر، وفي قلبه حلم واسع بحجم البحر. التحق بعم سعد، بائع الجرائد بمحطة ترام رشدي، وهناك بدأ أولى خطواته في مدرسة الحياة؛ حيث الأمانة رأس المال، والصدق طريق الرزق.

عند بلوغه الثامنة عشرة، انتقل إلى هذا السور ذاته، واتخذه وطنًا صغيرًا لا يغلق أبوابه، ظلّ يباشر عمله فيه حتى آخر يوم في حياته، يوم 18 مارس 2020، ليُختم بذلك أكثر من نصف قرن من الكفاح والكرامة.

الصدفة وحدها جعلتني جارًا لذلك السور، وجعلتني شاهدًا على ركن مختلف، كانت الصحف والمجلات فيه معروضة لا كمجرد سلعة، بل كقيمة تُقدَّم بأدب وفخر. لم أكن أنظر فقط إلى الورق، بل إلى الروح التي تديره.

جلست إلى نجله، إسلام، أحد أبنائه الخمسة، شاب أربعيني هادئ القسمات، شديد الوفاء، حمل الراية من أبيه ولم يتغير نهجه. حدثني عن وصية والده الأخيرة:
“المهم مش الفلوس… المهم تكسب حب الناس وثقتهم.”

ولم تكن مجرد كلمات، بل دستور حياة.
طوال حديثي معه، لم أسمع حكايات بقدر ما لمست قيماً تُغرس كل يوم؛ في طريقة تعامله مع الزبائن، في احترامه للمارة، في صدقه مع نفسه ومع الآخرين. كان واضحًا أن الحب لا يُشترى، بل يُزرع ويُثمر.

الحي ذاته لم يكن عاديًا، بل حي متنوع، سكنته جاليات أوروبية، وكان عم إبراهيم يحرص على توفير الصحف الأجنبية، يعرضها بذوق ووعي. ورغم أنه لم يتعلّم نظاميًا، فقد أتقن الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وتحدّث بها بطلاقة مع زبائنه، ما أكسبه احترامًا استثنائيًا، تخطّى حدود اللغة.

ولم يكن غريبًا أن تحاوره جهات إعلامية عديدة على مر السنوات، فكان دائمًا يؤكد أن المهنة، أيًّا كانت، لها شرفها، وأن الاحترام المتبادل هو رأس المال الذي لا يخسر.

اليوم، لا يقف إسلام فقط بائعًا للصحف، بل حافظًا لإرث، وراويًا لزمن، وموزعًا لقيم اندثرت في زحام العصر. كل ورقة يسلّمها، كأنها رسالة من الزمن الجميل، وكل كلمة يقولها، كأنها صدى صوت أبيه ما زال حيًّا.

ختامًا…
في زمن تآكلت فيه المعاني، وتكاثرت فيه الصور الفارغة، تبقى حكاية عم إبراهيم وإسلام مرآة صادقة لمصر الحقيقية؛ مصر التي لا تزال تنبض في الزوايا المهملة، وعلى أرصفة الحياة، وفي وجوه الكادحين الذين لا يطلبون شيئًا سوى الكرامة.
هؤلاء هم الذين يجب أن نكتب عنهم، لا ليُحتفى بهم فقط، بل لأن في قصصهم ما يُربينا من جديد على المعنى الأصيل للإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى