في إيران، القمعُ يلتهم الموارد والتضخّمُ يلتهم الموائد

بقلم: حسن محمودي – كاتب وباحث في الشأن الإيراني
معيشةٌ على حافة الانفجار: صورةٌ راهنة لاقتصاد إيران تحت حكم نظام وليّ الفقيه
تُظهِر متابعة الأخبار خلال الأيام القليلة الماضية لوحاتٍ متراكبة لأزمةٍ معيشية خانقة في إيران: قرارات متسلسلة بحذف الدعم النقدي، ارتفاعات قياسية في أسعار الغذاء والوقود، وتصريحات رسمية تُقِرّ بهجرة واسعة للأطباء وتدهورٍ متسارع في المؤشرات. وكلّ ذلك يجري فيما يكرّس نظام وليّ الفقيه موارده الشحيحة لأولويةٍ ثابتة: القمع الداخلي، ومتطلبات الملفّ النووي، وتمويل الشبكات النيابيّة، بدل إنقاذ مائدات الإيرانيين.
أعلنت السلطات حذف دعمٍ نقدي عن 18 مليون شخص دفعةً واحدة، كحلقة جديدة في سلسلة «رفع الدعم» التي تضرب الطبقتين الوسطى والفقيرة مباشرةً. وعلى المنوال نفسه، تَفجّرت سجالاتٌ حول خطّة «تعدّد أسعار البنزين» بثلاث شرائح أو أكثر، على وقع تحذيراتٍ من داخل البرلمان بأنّ أيّ قفزة بنسبة 300–500% ستعني ببساطة «تفجيرًا اجتماعيًا». بالتوازي، نشر مركز الإحصاء الرسمي رقمًا فاقعًا: متوسّط أسعار أكثر من 50 سلعة غذائية أساسية في المناطق الحضرية قفز بنحو 66% في سبتمبر/أيلول 2025. هكذا تُختصر الحياة اليومية: سلة غذاء أغلى، وقود مرشّح للغلاء، ودعمٌ يتبخر.
في واجهة المشهد السياسي–الاقتصادي، حاول الرئيس مسعود پزشكيان تسويق «خطابِ تعزيةٍ وطنية» من نوعٍ آخر بقوله: «نحن ننام على الذهب ونجوع». لكنّ العبارة الفضفاضة لا تجيب عن سؤال الناس المباشر: أين تذهب الثروات؟ يعرف الرئيس، كما يعرف الإيرانيون، أنّ الموارد تُشفَط عبر شبكات الحرس ومؤسساتٍ موازية، وأنّ الأولويات الحقيقية للنظام ليست خلق فرص العمل ولا لجم التضخّم، بل تثبيت أدوات الردع الداخلي. وقد لخّص پزشكيان بصدقٍ قلق السلطة حين قال إنّ خوفه «ليس من أمريكا أو إسرائيل، بل من الداخل»، أي من غضب الناس وانتفاضتهم.
على خطّ الخدمات الحيوية، كشف نائب وزير الصحّة أنّ نحو 30 ألف طبيبٍ عام لا يعملون في تخصّصهم داخل البلاد، وأنّ 30 ألفًا آخرين قدّموا طلبات هجرة؛ أي أنّ ما يقارب 60 ألف طبيب بين عاطلٍ عن مزاولة المهنة أو على طريق المغادرة. هذا النزيف لا يعني سوى انهيار تدريجي في منظومة الرعاية الأساسية، وبخاصةٍ في الأطراف والأرياف التي يدفع أهلها أثمانًا مضاعفة للوصول إلى خدمةٍ صحية متواضعة.
في المقابل، تقدّر قراءاتٌ اقتصادية أنّ التضخم قد يرسو عند نحو 56% في العامين المقبلين، فيما يقرّ خبراء موالون بأنّ «الاتجاه يتدهور». نوابٌ في البرلمان يتحدّثون صراحةً عن «زياداتٍ يومية في الأسعار تجعل حياة الناس لا تُطاق». إنها لغة القاع الاجتماعي وقد خرجت من تحت قبة السلطة نفسها.
تأتي هذه المؤشرات بالتزامن مع دخول عقوبات ما بعد الاتفاق النووي حيّز التنفيذ اعتبارًا من 18 أكتوبر/تشرين الأول. ورغم أنّ العقوبات لا تطاول مباشرةً الغذاء والدواء والقطاع الزراعي، إلا أنّ التجربة الإيرانية المريرة تقول إنّ الأثر غير المباشر ينعكس فورًا على معيشة الناس عبر قنوات سعر الصرف وكلفة التمويل وسلاسل الإمداد. والأسوأ أنّ أولويات النظام تجعل أيّ إيرادٍ محدود يتجه إلى صناديق القمع ومقتضيات البرنامج النووي والأذرع الخارجية، لا إلى تثبيت الخبز والدواء.
على الأرض، لا تُقابل الأزمة بمسارات إصلاحٍ وهيكلة، بل بـسياسة المقصلة اليومية داخل السجون لبثّ الخوف وكسر روح الاحتجاج. مع ذلك، تكشف وقائع الأسابيع الأخيرة حدود هذه المقاربة: إضرابٌ عن الطعام استمرّ أسبوعًا في «الوحدة 2» بسجن قزلحصار انتهى بتراجعٍ سلطويٍّ نادر، ما دلّ على أنّ الضغط المنظّم قادر على فرض كوابح، وأنّ المجتمع «لم يعُد لديه ما يخسره».
بناءً على ذلك، يمكن قراءة المشهد على النحو الآتي:
أولًا، تتّسع فجوة القدرة الشرائية بفعل رفع الدعم، وتعدّد أسعار الوقود، وارتفاع الغذاء، ما يعمّق الفقر ويضغط على الطبقة الوسطى.
ثانيًا، يتواصل نزيف رأس المال البشري مع موجات خروج الأطباء وسواهم، فيتقلّص الأمل بخدمةٍ عامة لائقة.
ثالثًا، تُنفق الدولة ما تبقّى من مواردٍ على الأولويات الأمنية والنووية والنيابية، فتتحوّل المعيشة إلى وقودٍ سياسيّ لمعركة بقاء السلطة.
رابعًا، ينتج عن هذه التركيبة مناخ انفجاري تتكثّف فيه الاحتجاجات القطاعية والمدينية، وتتعاظم المبادرات الشعبية—ومن بينها نشاط وحدات الانتفاضة—الساعية إلى كسر حلقة الخوف.
خلاصة القول: إنّ نظام وليّ الفقيه يدفع بالاقتصاد والمجتمع نحو حافةٍ خطرة، ظنًّا منه أنّ «ترفُع القبضة» يطيل عمره. لكنّ مؤشرات الواقع تقول العكس: كلّ خطوةٍ إضافية في مسار رفع الدعم وتوسيع الضرائب غير المعلنة عبر الأسعار تُسرّع اهتراء الشرعية وتزيد احتمالات الانفجار. لا عجب إذن أن يُمجّد المسؤولون «الصبر» فيما يَعدّ الناس كلفة الغد بالدقيقة. وبين مقصلة السجون وطوابير الصيدليات، تلوح معادلةٌ بسيطة: مجتمعٌ مُجوَّع لا يَثبت طويلاً تحت عصاٍ مرفوعة.