اختطاف الحوثيين للقانون الدولي

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
في خضم واحدة من أعقد الأزمات الإنسانية والسياسية في العالم اليوم، يختار الحوثيون في صنعاء أن يضيفوا إلى سجلهم الطويل من الإرهاب المحلي والدولي والانتهاكات خطوة جديدة، هذه المرة باستهداف أشخاص يفترض أنهم من أكثر الفئات حمايةً في القانون الدولي: موظفون تابعون لبعثات دبلوماسية وللأمم المتحدة. فالبيانات الصادرة خلال الأيام الأخيرة عن عواصم كبرى ومنظمات دولية مرموقة، من واشنطن إلى نيويورك وبروكسل، تتحدث بوضوح عن احتجاز مستمر لعشرات من الموظفين العاملين في البعثة الأمريكية باليمن، إلى جانب ما لا يقل عن تسعة وخمسين موظفاً تابعين للأمم المتحدة، جميعهم يمنيون، جرى توقيفهم تعسفياً وإحالتهم إلى محاكم خاصة تابعة للحوثيين، في انتهاك صريح لاتفاقيات دولية راسخة ولأبسط قواعد السلوك بين الدول.
ووفقاً لمعطيات نشرتها وكالات أنباء دولية مثل رويترز وأسوشيتدبرس، فإن الأمم المتحدة تؤكد منذ أشهر أن الحوثيين يحتجزون موظفيها في عزلة تامة، وبعضهم منذ سنوات، من دون أي إجراءات قضائية أو تمكين من التواصل مع عائلاتهم أو محاميهم، بينما تشير تقارير أحدث إلى أن عدد المحتجزين ارتفع إلى عشرات، وأن بعضهم أُحيل فعلاً إلى ما يسمّى “محكمة جنائية خاصة” في صنعاء، وهي هيئة لا يعترف بها المجتمع الدولي ولا تستوفي شروط القضاء المستقل.
وفي موازاة ذلك، تصدر وزارة الخارجية الأمريكية والسفارة الأمريكية المعتمدة في اليمن بيانات متكررة تندّد بما تصفه «حملة ترهيب» تستهدف الموظفين اليمنيين العاملين في السفارة الأمريكية والملحقات التابعة لها، وتطالب بإطلاق سراحهم فوراً ومن دون قيد أو شرط، مؤكدة أن هؤلاء الموظفين لم يرتكبوا أي جرم أو مخالفة ولا تتمثل اتهاماتهم بحسب الميليشيا الإرهابية سوى أداء عملهم في خدمة علاقات بلادهم مع المجتمع الدولي.
لا يمكن النظر إلى هذا السلوك بمعزل عن سجل أوسع من الانتهاكات التي ارتكبها الحوثيون بحق العاملين في الحقل الإنساني والدبلوماسي خلال السنوات الماضية؛ فالتقارير نفسها التي توثّق احتجاز موظفي الأمم المتحدة والسفارة الأمريكية تشير أيضاً إلى اقتحام مقار أممية في صنعاء وصعدة والحديدة، ومصادرة ممتلكات أممية، ومنع فرق إغاثة من الوصول إلى مناطق منكوبة، وصولاً إلى قرار الأمم المتحدة تعليق عملياتها الإنسانية في محافظة صعدة لفترة بسبب انعدام الضمانات الأمنية بعد موجة جديدة من الاعتقالات طالت موظفين محليين تابعين لسبع وكالات أممية. ولا تعبر هذه الممارسات عن خلاف سياسي مع دولة أو جهة بعينها بقدر ما تكشف عن نظرة عدائية عميقة لكل ما يرمز إلى نظام دولي قائم على القانون والتعاون الإنساني.
من منظور القانون الدولي، تبدو القضية واضحة إلى حدّ لا يحتمل التأويل؛ إذ يتمتع موظفو الأمم المتحدة، بمن فيهم المواطنون المحليون العاملون في وكالاتها، بحصانات وظيفية تضمن عدم تعرضهم للملاحقة بسبب أعمال قاموا بها في إطار مهامهم الرسمية، كما تنص على ذلك الاتفاقيات الموقعة بين المنظمة والدول المضيفة. وقد كرّرالأمين العام للأمم المتحدة والمتحدث باسمه خلال الأيام الأخيرة تأكيد هذا المبدأ، والتشديد على أن إحالة موظفين أمميين إلى محاكم الحوثيين ينتهك هذه الحصانات ويمثل خرقاً صريحاً للالتزامات الدولية التي يفترض بأي سلطة أمر واقع احترامها إن كانت تريد أن تُعامَل كطرف مسؤول في النظام الدولي.
وينطبق الأمر نفسه على الموظفين المحليين العاملين مع البعثة الأمريكية؛ فالمباني والوثائق والمراسلات والموظفون المرتبطون بعمل البعثة يتمتعون بحماية اتفاقية “فيينا” للعلاقات الدبلوماسية، التي تحرّم أي اعتداء على مقار البعثات أو موظفيها، وتلزم السلطة القائمة في البلد المضيف بحمايتهم لا بانتهاك حقوقهم. وحين تُغلق سفارة ما أبوابها بسبب الحرب أو التوتر، لا يعني ذلك أن موظفيها المحليين يصبحون هدفاً مباحاً؛ بل إن العرف الدبلوماسي والقانون الدولي يعتبران المساس بهم اعتداءً على الدولة الموفدة نفسها. لذلك كان من الطبيعي أن تصف بيانات الكونغرس والخارجية الأميركية اقتحام مجمّع السفارة الأميركية في صنعاء واعتقال موظفيه بأنه “انتهاك فاضح للأعراف الدولية” وأن تطالب بمحاسبة المسؤولين عنه.
وفي الواقع ووراء هذه الوقائع القانونية الجافة تختبئ قصة إنسانية قاسية؛ فمعظم المحتجزين من موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية هم يمنيون عاديون اختاروا أن يخدموا بلدهم من خلال العمل في مجالات الإغاثة والصحة والتعليم والتنمية، لا من خلال حمل السلاح على جبهات القتال. وكثير منهم آباء وأمهات يعولون أسرًا تعتمد كلياً على رواتبهم، وقد وجدوا أنفسهم فجأة في زنازين سرية، مقطوعين عن العالم، بلا محاكمة ولا تهم واضحة، فقط لأن جهة وبالأصح ميليشيا مسلحة قررت أن تشكك في ولائهم أو أن تستخدمهم كورقة ضغط في مفاوضات سياسية. وتسربت الروايات الصادرة عن تقارير بحثية وحقوقية غربية عن سوء أوضاعهم، وحرمان بعضهم من العلاج ووفاة أحدهم على الأقل تحت التعذيب أو الإهمال الطبي، ما يضيف بعداً أكثر قتامة إلى المشهد.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا يتجرأ الحوثيون على اتخاذ خطوة من هذا النوع، رغم علمهم اليقيني بأن العالم سيرى فيها استفزازاً صارخاً للمجتمع الدولي؟ يكمن جزء من الجواب في طبيعة الجماعة ذاتها؛ فهي تنظيم مسلح نشأ في سياق حروب أهلية طويلة، بنى شرعيته على خطاب تعبئة ديني وسياسي، واعتاد أن يتعامل مع أي نقد أو رقابة كتهديد وجودي لا كسلوك طبيعي في أي منظومة حديثة. لذلك فإن وجود موظفين أمميين ودبلوماسيين ومنظمات حقوقية مستقلة في مناطق سيطرتهم يُنظر إليه بعين الشك، وأحياناً يتهمون هؤلاء علناً بالتجسس أو العمالة، في محاولة لتهيئة الرأي العام المحلي لقبول أي إجراءات قمعية تُتخذ بحقهم.
وجزء آخر من الجواب يتعلق باستخدام “ورقة الرهائن” كأداة تفاوضية؛ فالتجارب السابقة في نزاعات أخرى أثبتت أن بعض الجماعات المسلحة تلجأ إلى احتجاز مواطنين أجانب أو موظفين دوليين لتحسين موقعها في أي تسوية مقبلة، أولابتزاز المجتمع الدولي من أجل رفع عقوبات، أو الحصول على اعتراف سياسي، أو وقف عمليات عسكرية تستهدفها. وعندما تحتجز جماعة ما عشرات من موظفي الأمم المتحدة والبعثة الأميركية والمنظمات الإنسانية، فهي تدرك أن كل عاصمة معنية ستكون مضطرة لوضع “ملف الرهائن” على جدول أعمالها في أي حوار يتعلق بالحرب في اليمن، وبالتالي تحوّل هؤلاء الأبرياء إلى أوراق في لعبة تفاوض قاسية. لكن المشكلة أن هذا النوع من الابتزاز يأتي دائماً على حساب المدنيين؛ فكلما ضاقت مساحة الحركة أمام الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بسبب المخاطر الأمنية، تقل قدرة هذه المنظمات على إيصال الغذاء والدواء إلى ملايين اليمنيين الذين يعتمدون على المساعدات للبقاء على قيد الحياة.
وقد جاء رد فعل المجتمع الدولي حتى الآن حاسماً على مستوى اللغة، وإن كان محدود الأثر عملياً بحكم التعقيدات الميدانية، حيث أصدر الأمين العام للأمم المتحدة بياناً شديد اللهجة يطالب الحوثيين بإلغاء إحالة الموظفين الأمميين إلى المحاكم الخاصة والإفراج الفوري عن جميع المحتجزين، واصفاً ما يجري بأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي، في حين أصدرت دول الاتحاد الأوروبي بيانات داعمة، وحذرت من أن هذه الممارسات تقوّض قدرة الأمم المتحدة على مواصلة عملياتها الإنسانية والتنموية في اليمن.
أما الولايات المتحدة، فقد ذهبت أبعد في توصيفها، إذ اعتبرت أن هذه الاعتقالات التعسفية تكشف طبيعة الحوثيين كجماعة “تعتمد على الإرهاب والقمع للبقاء في السلطة” وأنها دليل جديد على أنهم غير معنيين باحترام التزاماتهم الدولية أو حماية اليمنيين المتعاونين مع المجتمع الدولي.
بينما يحاول الحوثيون في مواجهة هذا الإجماع الدولي، تقديم رواية مضادة تزعم أن بعض هؤلاء الموظفين متورطون في أنشطة تجسسية لصالح دول معادية، وأن ما يجري ليس سوى “محاكمات عادلة” ضد ما يسميهم “عملاء”، لكن هذه الادعاءات تفتقر لأية مصداقية أو شفافية أو أدلة قابلة للتحقق، ولا تُعرض أمام محاكم مستقلة ولا في حضور مراقبين دوليين. وفي المقابل تعتبر المنظمات الحقوقية المستقلة، اليمنية والدولية على السواء، هذه التهم جزءاً من خطاب دعائي يهدف إلى شرعنة القمع لا أكثر؛ إذ يتكرر النمط ذاته في قضايا صحفيين وناشطين وحقوقيين اختفوا قسراً ثم ظهروا في السجون الحوثية متهمين بالخيانة أو الإرهاب، لمجرد أنهم نقلوا خبرا أو وثّقوا انتهاكات أو انتقدوا ممارسات سلطات الأمر الواقع.
وعلى المدى البعيد، تدفع هذه الممارسات الحوثيين إلى عزلة أعمق عن المنظومة الدولية، وتتناقض مع الصورة التي يحاولون أحياناً تسويقها لأنفسهم كسلطة “أمر واقع” قادرة على إدارة شؤون البلاد وتريد أن تُعامل كحكومة مسؤولة لا تبدأ علاقتها بالمجتمع الدولي بخطف موظفيه ومهاجمة مؤسساته؛ بل تحترم الاتفاقيات وتلتزم بحماية البعثات والهيئات الإنسانية، حتى عندما تختلف معها سياسياً. لكن ما يفعله الحوثيون اليوم أشبه بسلوك عصابة مسلحة أكثر منه سلوك كيان سياسي حديث، وهو ما يفسر إلى حد كبير استمرار تصنيفهم في عدد من الدول الغربية ضمن الجماعات الإرهابية أو على قوائم العقوبات، رغم محاولات بعض الأطراف الإقليمية إيجاد تسويات سياسية تنهي الحرب.
ولا يمكن إغفال أن المتضرر الأول من هذه السياسات ليس الولايات المتحدة ولا الأمم المتحدة بقدر ما هو الشعب اليمني نفسه؛ فحين يقرر برنامج الأغذية العالمي أو منظمة الصحة العالمية أو اليونيسف تعليق عملياتهم في محافظة كاملة بسبب خطر الاعتقال أو مصادرة المعدات، فإن الأطفال الذين لن يحصلوا على لقاح، والأسر التي لن تستلم حصتها من الغذاء، والمرضى الذين لن يصل إليهم الدواء، هم الذين يدفعون الثمن الفوري. و بالتالي فإنه من السهل على أي سلطة مسلحة أن ترفع شعارات “السيادة” و”مواجهة المؤامرات” لتبرير قمعها، لكن الأرقام القاسية عن ملايين اليمنيين الذين يعيشون على شفا المجاعة، وعن بنية صحية منهارة، تكشف أن من يقطع شريان المساعدات عنهم لا يدافع عن السيادة بقدر ما يضيف طبقة جديدة من المعاناة إلى معاناتهم.
نستستخلص بالتالي أن ملف احتجاز الموظفين الأمريكيين والموظفين التابعين للأمم المتحدة لدى الحوثيين، يكشف عن حقيقة مزدوجة؛ فهو من جهة دليل على الطبيعة القمعية للجماعة وخروجها عن قواعد المنظومة الدولية التي تحترم القانون حتى البسيط منها، ومن جهة أخرى اختبار لجدية المجتمع الدولي في حماية العاملين لديه وعدم تركهم رهائن في يد سلطة أمر واقع تستخدمهم كورقة ضغط. وليست الخيارات المتوفرة أمام العواصم والمنظمات بسهلة، فهي تتحرك في حقل ألغام سياسي وعسكري وإنساني، لكن المؤكد أن الصمت أو الاكتفاء ببيانات شجب لا يكفيان. فإذا كان يجب على العالم أن يبعث برسالة واضحة مفادها أن احتجازالأبرياء أياً كانت هويتهم، ليس ب “أداة مقبولة” في لعبة السياسة، وأن من يصرّ على هذا السلوك سيبقى خارج دائرة الاحترام والشرعية مهما حاول تجميل صورته بالشعارات أو الخطابات، فيجب عليه أن يتخذ خطوات ضرورية كالضغط الدبلوماسي القاسي والمتواصل، وربط أي تواصل سياسي مع الحوثيين بإطلاق سراح جميع المحتجزين بلا استثناء، كما وجب عليه توثيق الانتهاكات استعداداً لمساءلة قانونية في المستقبل.



