في مديح من لا يزال واقفًا في صحراء السياسة

الكاتب : عادل عبيات
لا يمكن فهم مريم رجوي بلغة المعارضة الليبرالية، ولا يمكن وصفها بخطاب اليسار الكلاسيكي. إنها كفاعل سياسي تقف على مفترق طريق بين زمنين: من جهة، وريثة تقاليد مناهضة الرجعية ومعاداة الملكية في سبعينيات القرن الماضي؛ ومن جهة أخرى، ناشطة منظمة في عصر اللامبالاة والتشتت واستراتيجيات المعارضة القائمة على الشهرة الفردية.
السؤال الرئيسي بشأن مريم رجوي ليس ما فعلته، بل كيف عاشت كفاعل تنظيمي في عالم دفن التنظيمات. في زمن يُعتبر فيه الانفتاح قيمة مطلقة، ويُنظر إلى غياب التنظيم على أنه مرادف للحرية، تقف هي كجسد منضبط، مقاوم، محاط بالانضباط. وهذا الوقوف يبدأ تحديدًا عندما تنهار الديمقراطية الزائفة وتنتهي العروض.
الانتقادات الموجهة إلى مريم رجوي وتنظيمها غالبًا ما تصدر من وجهات نظر تفتقر إلى التنظيم والاستراتيجية وتاريخ المقاومة. أولئك الذين يتحدثون عن الطائفية غير قادرين على فهم ضرورة الانغلاق في قلب الحياة الأمنية. في عالم يتسلل فيه الاختراق من خلال المشاركة، لا يُعتبر الانغلاق تراجعًا، بل استباقًا. التنظيم المغلق في هذا السياق ليس إنكارًا للسياسة، بل هو تشكيل راديكالي لها، حتى وإن كان ذلك على حساب الإقصاء من وسائل الإعلام الرسمية والتقليل من شأنه في نظر الطبقة المتوسطة المهاجرة.
مريم رجوي ليست من نوع السياسة الذي يبدأ بتغريدة وينتهي بغضب رقمي. إنها بقايا هيكل، ولكن ليس بالمعنى التقليدي. لقد تحولت إلى بنية خطابية حيث لا تكون المرأة مجرد هوية جندرية، بل شكل من أشكال القيادة والانضباط والولاء. في العصر ما بعد الحداثي، حيث يُتهم السلطان دائمًا، تقف مريم كسلطة تستمد مشروعيتها من الدم والسجن والتعذيب والنفي، وليس من الإعلام أو التصويت أو السرد.
على الصعيد الدولي، أصبحت مريم رجوي نقطة تركيز للبديل، من السياسيين المحافظين الأمريكيين إلى الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين، من دعاة السلام إلى النخب الأكاديمية. وليس ذلك لأنها خطيبة جيدة أو لأن تنظيمها يمتلك لوبيًا قويًا، بل لأنها – على عكس معظم لاعبي المعارضة – لم تجعل الحكومة في المنفى شعارًا، بل هيكلًا.
يمكن للمرء ألا يحب مريم رجوي، ولكن لا يمكن تجاهلها. لأنها لم تقف فقط، بل أبقت الوقوف، ليس فقط لنفسها، بل لآلاف الأجساد والعقول والحيوات. وهنا تخرج السياسة من دائرة الأخلاق اليومية والذوق الثقافي وتتحول إلى تاريخ. تاريخ ليس كما حدث، بل كما تم بناؤه.
وإذا تحررت إيران غدًا دون وجود تنظيم لنقل السلطة، سيعلم الجميع لماذا وقفت مريم رجوي، ولماذا كانت مغلقة، ولماذا فهمت السياسة كمعركة، وليس كمسابقة جمال على السجادة الحمراء.
في سياق صراعات القوة، التنظيم المغلق ضرورة، والانضباط في الحرب غير المتكافئة. كل ثورة تخلق لغتها الخاصة. لغة المجاهدين ليست لغة الرصاص، بل لغة الاختيار، الاختيار بين الموت الرمزي في المنفى أو الموت الحقيقي في الميدان. في عالم أصبحت فيه مفاصل المقاومة علامات تجارية، ليست مريم رجوي علامة تجارية ولا صورة، بل انضباط جاء من نص الإعدام، من جسد التعذيب، ومن عظام متناثرة في أرض العراق.
لا يمكن فهم الستينيات والسبعينيات بمعايير تويتر اليوم. هناك، لم تكن الحرية شعارًا، بل سلاحًا، وإذا لم تكن تملكه، كنت تُسجن. فضل المجاهدون، مثل جبهات التحرير في أفريقيا، مثل تشي غيفارا في بوليفيا، الهيكل على غياب الهيكل، لأن الوجود بدون هيكل كان يعني الفناء السريع.
التنظيم طائفة، مغلق لأنه لم تنته الحرب. في ظروف يكون فيها النظام الإسلامي ليس خصمًا بل مُقصيًا، وفي وقت يكون فيه الاختراق قاعدة وليس تهديدًا، تصبح الشفافية انتحارًا. الانغلاق في هذا السياق هو تشكيل للمقاومة، وليس إنكارًا للعقلانية. كل ثورة لها نظامها المعنوي الخاص. نحن نتحدث عن الديمقراطية، وهم عن التماسك.
جيش التحرير هو امتداد للغة العنف المتبادل، ترجمة مادية لـ “لا” في مواجهة استبداد صادر حتى اللغة. الوجود في العراق، في تلك السياقات، كان اختيارًا لا مفر منه، ليس بدافع الغضب، بل من منطلق الحساب. يمكن نقده، يمكن النظر إليه من منظور أخلاقي، ولكن لا يمكن فصله عن سياقه التاريخي. للتاريخ نسيج، والحكم بدون نسيج ليس إلا هستيريا.
في هذا المجال، مريم رجوي ليست امرأة بالمعنى الجندري، ولا زعيمة بالمعنى الكلاسيكي. إنها شكل من أشكال القيادة التي تأمر ليس بسبب السلطة الفردية، بل بسبب تراكم الخبرة الجماعية. سلطتها لا تأتي من الكاريزما، بل من البقاء. لقد بقيت على قيد الحياة لأن التنظيم بقي، وبقي التنظيم لأنها وقفت – في مواجهة الانحلال، في مواجهة النسيان، في مواجهة التحول إلى وسم.
نعم، إذا بقي الانضباط بدون تساؤل، فإنه يتعفن. ولكن التساؤل في قلب الحرب إما أن يكون داخليًا وبنّاءً، أو خارجيًا ومدمرًا. الفرق بين النقد والاختراق هو خط رفيع. وقد دفع المجاهدون ثمن هذا الخط بألف روح.
لذا، عندما تكتبون عن الطائفة، تذكروا أن هذه الطائفة تقف في مواجهة جمهورية ليست دولة، بل تنظيم، تنظيم للموت، تنظيم للإقصاء. وهنا، لم تنته الحرب بعد.
وهي، من تقف – ليست علمًا، ولا رمزًا، ولا أمًا. إنها نتيجة. نتيجة أربعين عامًا من الوقوف في صحراء السياسة الإيرانية، دون أن تخضع لتجميل إعلامي، دون أن تزين الخسارة باسم الحوار. لقد بقيت لأنها وقفت، بقيت. ليس بدلاً عن الجميع، بل في مكانها الخاص.