اليمن… جرح الشرق الأوسط المفتوح بين الحرب والسلام المؤجل

نيويورك – زينة بلقاسم – عين اخبار الوطن
في صيف 2025، وبينما كانت أنظار العالم مشدودة نحو غزة وأوكرانيا، عاد ملف اليمن ليطلّ على جلسات مجلس الأمن بتقارير متكررة عن هشاشة الهدنة الإنسانية التي توسطت فيها الأمم المتحدة أواخر ال 2022. فالمبعوث الأممي “هانس غروندبرغ” حذّر في إحاطاته الأخيرة من أنّ “السلام في اليمن لا يزال بعيدًا رغم التهدئة النسبية”، مؤكّدًا أنّ الخطر الأكبر يكمن في انزلاق البلاد مجددًا إلى حرب مفتوحة في حال فشل الفرقاء في استثمار التفاهمات الجزئية التي جرت بوساطة إقليمية بين الرياض وصنعاء. ومع تراجع التمويل الإنساني إلى أقل من 30% من المطلوب وتهديد المجاعة لأكثر من 17 مليون شخص، بدا المشهد اليمني كأنه يراوح بين أزمة إنسانية كبرى ومفاوضات سياسية هشة لم تصل إلى جذور النزاع.
فمنذ اندلاع الحرب في 2014 عقب سيطرة الجماعة التي تحمل “جماعة الحوثي” على صنعاء وانهيار الحكومة المعترف بها دوليًا، دخل اليمن دوامة صراع داخلي سرعان ما تحول إلى حرب إقليمية. أما في مارس 2015 تدخل التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية لدعم الحكومة، لتتحول المعركة إلى اختبار إقليمي بين قوى مؤثرة في المنطقة: أي الرياض وطهران مما تسبب في أزمة أممية في واحدة من أفقر دول المنطقة. وعلى مدى عقد كامل، لعبت الأمم المتحدة دور الوسيط، من خلال مبعوثيها المتعاقبين، بدءًا من “جمال بن عمر” ثم “إسماعيل ولد الشيخ”، وصولًا إلى “غروندبرغ”. لكنّ المبادرات، من “محادثات الكويت” عام 2016 إلى “اتفاق ستوكهولم” في 2018، لم تحقق اختراقًا مستدامًا. فكل مرة تُبرم هدنة، تنهار بفعل غياب الثقة، واستمرار الهجمات الجوية والصاروخية وتعدد القوى المسلحة على الأرض.
أما اقتصاديًا فقد دفع اليمن ثمنًا فادحًا، حيث انهارت العملة الوطنية إلى مستويات غير مسبوقة، وتوقفت رواتب الموظفين في كثير من المحافظات تمزّق فيها الاقتصاد اليمني إلى مناطق نفوذ متوازية: حيث خضع الشمال لإدارة الحوثيين في حين سيطرت الحكومة المدعومة من التحالف على الجنوب، أما الشرق ففتح أمام صراعات قبلية تنوع فيه الحضور العسكري. وبالمقارنة مع دول الجوار الخليجي الغنية، صار اليمن نموذجًا للتفاوت المرعب بين الثروة والنفط في الرياض وأبو ظبي من جهة والفقر المدقع في صنعاء وتعز والحديدة من جهة أخرى. ومع أن البنك الدولي والأمم المتحدة أطلقا خططًا طموحة لإعادة الإعمار بقي التمويل معلقًا على شرط تحقيق تسوية سياسية شاملة لم تتحقق حتى اليوم.
وإذا تطرقنا الى الجانب الإنسانيً، فقد وُصفت الحرب في اليمن مرارًا بأنها “أسوأ أزمة إنسانية في العالم”. ومنذ 2015، تكررت التقارير الأممية عن ملايين النازحين وانهيار النظام الصحي الى جانب انتشار الأوبئة مثل الكوليرا وأسواؤها انتشار مجاعة متقطعة تتهدد الأطفال على وجه الخصوص. ومع ذلك، ظلّت عمليات الإغاثة تعاني من عرقلة ميدانية وانقسام الجغرافيا، كما وضعف التمويل. وفي المقابل، اكتفت القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بممارسة ضغوط محدودة على الأطراف دون فرض خريطة ملزمة للحل، كما فعلت سابقًا في البلقان. فبدا وكأن اليمن بالنسبة للعالم ساحة “منسية” تُدار بتوازنات الحد الأدنى لا بقرارات جذرية.
وبحكم تطرقنا للجانين الاقتصادي والاجتماعي فلن نغفل السياسي، حيث مثّل اتفاق الرياض عام 2019 بين الحكومة والمجلس الانتقالي الجنوبي محطة مهمة، إذ أعاد ترتيب أوراق السلطة في الجنوب. لكنه لم يُترجم إلى توحيد الصفوف ضد الحوثيين، بل أدى إلى مزيد من الانقسامات. ومع كل مبادرة جديد كان يظهر بوضوح أنّ الصراع لم يعد محصورًا بين “الحكومة والحوثيين”، بل تحوّل إلى شبكة من النزاعات تمثلت في: شمال وجنوب من ناحية، وقبائل ودولة من الناحية الأخرى، تحت تشبيه النفوذ الإقليمي بين ثلاث قوى كبرى: المملكة العربية السعودية والإيرانية إضافة الإماراتية، استفادت من فوضاه الجماعات المتطرفة مثل “القاعدة”. كما جعل هذا التعدد مهمة الأمم المتحدة شبه مستحيلة، إذ لم تعد هناك “أطراف اثنان” للتفاوض، بل طيف واسع من الفاعلين.
وعلى خلاف تجربة البوسنة أو حتى جنوب السودان، لم ينجح مجلس الأمن في فرض أي قرار حاسم يلزم الأطراف. فالقرار 2216 الصادر عام 2015 الذي طالب الحوثيين بالانسحاب من المدن وتسليم السلاح، بقي بلا تنفيذ فعلي. ومع استخدام الفيتو أو غياب الإرادة، تحولت كل الجلسات إلى بيانات قلق ودعوات لوقف إطلاق النار، بينما استمر نزيف الدم على الأرض. حتى اتفاق الهدنة في أبريل 2022، الذي صمد لأشهر وخفّف نسبيًا من القصف، لم يُترجم إلى حل سياسي شامل، بل تحوّل إلى “تجميد للحرب” أكثر منه سلامًا حقيقيًا.
اليوم، ومع عودة الرئيس “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض عام 2025، برزت تكهنات حول إمكانية أن يضع اليمن ضمن “صفقاته الكبرى” في الشرق الأوسط، كما فعل في اتفاقات أبراهام. لكن حتى اللحظة، لم تُبدِ الإدارة الأمريكية اهتمامًا مباشرًا يتجاوز دعم الوساطات الإقليمية بين الرياض وصنعاء. وتواصل الأمم المتحدة من جانبها التحذير من أن أي تسوية لا تعالج جوهر الصراع المتمركز حول تقاسم السلطة إلى جانب إدارة الموارد وضمان العدالة الانتقالية، ستبقى هشة. أما في الميدان، فلا يزال اليمنيون يعيشون بين أمل ضائع في عودة الدولة وخوف مستمر من أن تعود الحرب بكل قوتها.
لكن الدرس المستفاد من التجربة اليمنية فيخلص الى أن السلام لا يمكن أن يولد من هدنة مؤقتة أو اتفاق جزئي، بل من وجوب معالجة عميقة لجذور النزاع المتمثل في: الهوية الوطنية والمشاركة السياسية الى جانب العدالة والتنمية. وتكون بذلك الأمم المتحدة قد قدّمت إطارًا لكنه اصطدم بواقع القوى الإقليمية وتناقض المصالح. أما الولايات المتحدة والغرب فاكتفوا بسياسات إدارة الأزمة بدلًا من حلها. لكن اليوم وبعد أكثر من عقد على بداية الحرب فيظل اليمن واقفا عند مفترق طرق: فإما أن يستغل نافذة التفاهمات الهشة الحالية لبناء سلام شامل، أو أن ينزلق مجددًا إلى فوضى ستجعل من الحرب الماضية مقدمة لمأساة أكبر.
المقال ٥: زينة بلقاسم