إيران… بين العقوبات والاتفاقات المؤجلة وصراع الشرعية الدولية

 

✍️ زينة بلقاسم

تعيش إيران لحظة مفصلية جديدة. فبعد أكثر من أربعة عقود على الثورة الإسلامية، وما يزيد عن عشر سنوات على توقيع الاتفاق النووي عام 2015، لكن لا تزال البلاد بين مطرقة العقوبات وسندان الضغوط الداخلية. فالوضع الاقتصادي يزداد سوءًا مع استمرار العقوبات الأمريكية والأوروبية رغم محاولات الالتفاف عليها عبر الصين وروسيا. تجاوز التضخم في البلد الفارسي 40%، وفقدت العملة المحلية معظم قيمتها، اما البطالة بين الشباب فحدث ولا حرج، اذ بلغت مستويات غير مسبوقة. ومن جانب آخر وسياسيًا، تميزت السنوات المتتالية: 2022 و2023 وتبعتهم   2024 بخروج احتجاجات متكررة مطالبة بالإصلاحات والحريات، واجهتها السلطات بالقمع، ما جعل صورة طهران أمام المجتمع الدولي أكثر عزلة.
ولم تتوقف الأمم المتحدة من جانبها عن الدعوة لاحترام حقوق الإنسان في إيران.  ولكن تقارير المقررين الأمميين الخاصين رصدت وباستمرار انتهاكات تشمل الاعتقالات التعسفية والإعدامات وتقييد حرية الصحافة. وبدوره لم يتمكن مجلس الأمن من اتخاذ إجراءات قوية بسبب الانقسامات بين القوى الكبرى، فيما تبقى العقوبات الدولية مرتبطة بملفها النووي أكثر من ملفها الحقوقي.
لكن وبالعودة إلى جذور المشهد الراهن يتضح أن إيران ومنذ ثورة 1979 أعادت رسم موقعها الإقليمي والدولي. فقامت بثورة أطاحت بنظام الشاه الموالي للغرب وأقامت جمهورية إسلامية ذات خطاب ثوري رافض للهيمنة الأمريكية. وما لبثت أن دخلت في حرب طاحنة مع العراق امتدت بين 1980و1988 راح ضحيتها مئات الآلاف، واستنزفت اقتصادها. أصدر مجلس الأمن آنذاك القرار 598 الذي أنهى الحرب ودعا إلى وقف إطلاق النار، لكن الثمن كان باهظًا.
وفي تسعينيات القرن الماضي، حاولت إيران الخروج من عزلتها تدريجيًا، لكنها ظلت موضع شك بسبب دعمها لحركات مسلحة في المنطقة. أما مع بداية الألفية الجديدة فقد دخل برنامجها النووي مرحلة حساسة. ففي 2006، أحال مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الملف إلى مجلس الأمن، الذي أصدر سلسلة قرارات: من القرار 1696 حتى القرار 1929 تم بموجبهم فرض عقوبات مشددة.
لكن جاء المنعطف الكبير في عهد الرئيس السابق “باراك أوباما”، حين وُقّع الاتفاق النووي المعروف بـ “خطة العمل الشاملة المشتركة” (JCPOA) عام 2015 بعد مفاوضات مضنية بين إيران ومجموعة (5+1). قد نص الاتفاق المبرم على تقليص أنشطة إيران النووية مقابل رفع تدريجي للعقوبات. أيد مجلس الأمن الاتفاق بالقرار 2231 ومنحه شرعية دولية، لكنه اعتُبر حينها إنجازًا دبلوماسيًا بارزًا للأمم المتحدة والولايات المتحدة.
لكن عودة الرئيس “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض عام 2017 غيّرت المعادلة. حيث أعلن انسحاب واشنطن من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات سنة 2018، معتبرًا أن الاتفاق لم يعالج “سلوك إيران المزعزع للاستقرار” في المنطقة. أضعفت تلك الخطوة الاتفاق وأعادت إيران لتخصيب اليورانيوم بمستويات أعلى. و من جهة التهدئة ومعالجة الأمور عن طريق مواصلة الجلوس على الطاولة و التفاوض، حاولت أوروبا الحفاظ على الاتفاق عبر آلية “إنستكس” لكنها فشلت في تجاوز العقوبات الأمريكية.
وفي عهد الرئيس السابق “جو بايدن” الذي امتدت فترة رئاسته بين 2021 و2025، جرت مفاوضات متقطعة لإحياء الاتفاق لكنها لم تصل إلى نتيجة حاسمة. تعقد بذلك الملف الإيراني أكثر مع اندلاع الحرب الروسية/الأوكرانية عام 2022 حيث اتُهمت طهران بتزويد موسكو بطائرات مسيّرة، ما زاد التوتر مع الغرب. اما في الداخل، فهزّت احتجاجات 2022 التي انطلقت بعد وفاة “مهسا أميني” صورة النظام وجعلت ملف حقوق الإنسان في إيران على رأس أولويات الأمم المتحدة والجمعية العامة.
واليوم ومع عودة الرئيس “دونالد ترامب” إلى الحكم في نوفمبر 2024 لفترة حكم ثانية، أصبح مستقبل الملف النووي الايراني أكثر غموضًا. فأعلن “ترامب” أنه يريد “صفقة جديدة أشمل” تشمل الصواريخ الباليستية وسياسة إيران الإقليمية وليس فقط برنامجها النووي، لكن إيران رفضت التنازل ولا زالت ترفض وتؤكد أن أي اتفاق يجب أن يلتزم بقرار مجلس الأمن 2231. اما الأمم المتحدة ف تكرر بدورها أن الحل الوحيد هو الدبلوماسية وفي الوقت ذاته تعترف أن الخلافات بين واشنطن وطهران تجعل الوصول إلى تسوية أمرًا بالغ الصعوبة.
وعلى الصعيد الإقليمي، تواصل إيران سياستها التوسعية عبر دعم حلفائها في العراق وسوريا ولبنان واليمن ما يجعلها في صدام دائم مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد ناقش مجلس الأمن مرارًا دور إيران في زعزعة الاستقرار لكنه لم يتخذ قرارات مؤثرة بسبب الانقسامات الدولية.
أما الاقتصاد الإيراني، فيبقى الحلقة الأضعف حيث طالت العقوبات الأمريكية قطاعات النفط والمصارف والشحن، فيما أدت سياسة “الاقتصاد المقاوم” التي أعلنها المرشد الأعلى ” علي خامنئي” إلى الاعتماد أكثر على الصين وروسيا لم تكن عوائد هذا الاعتماد كافية لإنقاذ العملة المحلية أو تحسين معيشة المواطنين. وهنا تكمن معضلة النظام: الذي يحاول المحافظة جاهدا في سياسة الحفاظ على خطاب التحدي في الخارج بينما يواجه ضغوطًا متزايدة في الداخل.
تكشف خلاصة التجربة الإيرانية منذ 1979 وحتى 2025 عن حقائق أساسية متمثلة في: أن الشرعية الدولية عبر قرارات مجلس الأمن قد تفتح نافذة للسلام – كما حدث مع الاتفاق النووي 2015، لكنها تنهار إذا غابت الإرادة السياسية للقوى الكبرى. وعقوبات اقتصادية لم تغير رغم تأثيرها الهائل على حياة المواطنين، سلوك النظام، بل عززت تشدده. الى جانب أن الأمم المتحدة ورغم دورها في الرقابة والمفاوضات، فقد بقيت عاجزة عن فرض التزامات حقيقية على إيران بسبب الانقسامات الدولية.
ويظل الإيرانيون اليوم واقفين بين تطلع إلى مستقبل أكثر انفتاحًا ورغبة في إنهاء العقوبات، وبين نظام يصرّ على الاستمرار في نهجه الإقليمي المزعزع و المثير للنعرات و الانقسام الطائفي والدفاع عن برنامجه النووي كـ”حق سيادي”. ويبقى سؤال مطروح: هل يستطيع المجتمع الدولي إنتاج صيغة متوازنة تعيد إيران إلى طاولة الاتفاق وتمنح شعبها فرصة للعيش بسلام وكرامة؟ أم أن الصراع سيستمر وتبقى إيران عنوانًا لأزمات جديدة في الشرق الأوسط والعالم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى