من “بوسيدون” الروسي إلى “الاختبارات الأميركية”: السباق النووي يعود إلى الواجهة. فهل يقترب العالم من زمن الردع المفتوح؟

بوتين مُفتتن بترامب لأنه يرى فيه مخرجا من الجمود الدبلوماسي للجلوس إلى طاولة الأقوياء ورفع العقوبات حسب بعض الخبراء (أسوشيتد برس)

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

في مشهدٍ يُذكّر بأيام الحرب الباردة، عاد الخطاب النووي ليتصدّر نشرات العالم. لكن هذه المرة، ليس عبر التهديدات فقط، بل عبر الاستعراض العلني للقوة من قبل عواصم البلدين الأقوى نوويا: “موسكو” و”واشنطن” في وقت واحد. ففي الوقت الذي وقف فيه الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” يتحدث عن “طوربيد بوسيدون” النووي الذي وصفه بـ “الأشد تدميرًا في التاريخ الحديث”، ألحقه بمسيرة بحرية، خرج الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” ليطلب رسميًا من وزارة حرب بلده بدء اختبارات نووية جديدة، في تحدٍّ واضح لقرارات الأمم المتحدة التي حذّرت من أن أي تجربة نووية جديدة “ستقوّض أمن العالم وتعيد فتح أبواب سباق الردع.”
بدأت الصورة متناقضة ظاهريًا، لكنها منسوجة بخيوط واحدة تتمثل جليا في” الخوف من فقدان السيطرة على ميزان القوة العالمي. ” فمنذ إعلان موسكو عن تطوير سلاحها “بوسيدون”: الطوربيد النووي الذي يمكنه التحرك تحت الماء لآلاف الكيلومترات محمّلًا برأس تفجيري قادر على محو مدن ساحلية كاملة، والغرب يعيش حالة استنفار استراتيجي.
ظهر الرئيس الروسي “بوتين” الأسبوع الماضي وهو يتحدث عن هذا السلاح بوصفه “درعا روسيا في وجه الهيمنة الغربية”، مشيرًا إلى أن بلاده “لن تتردّد في استخدام ما يلزم لضمان الردع الكامل”. تصريحٌ لم يكن معزولًا عن السياق، بل جاء بعد أسابيع من تصريحات أميركية متصاعدة حول “ضرورة تحديث الردع النووي الأميركي” تحولت الى طلب رسمي من الرئيس “ترامب” الى وزارة الحرب الامريكية.
الرئيس ” دونالد ترامب”، والمعروف بأسلوبه المباشر والمفاجئ، قال بوضوح: “حان الوقت لاستعادة تفوقنا النووي”، مضيفًا أنه أمر البنتاغون بإطلاق سلسلة من الاختبارات النووية الفورية بهدف “تقييم فعالية الترسانة الأميركية بعد عقود من الجمود”. كانت هذه العبارة وحدها كافية لإشعال جدل عالمي. حيث سارعت الأمم المتحدة إلى التحذير من أن أي تجربة كهذه “ستفتح الباب أمام سلسلة اختبارات مماثلة من دول أخرى، بما في ذلك روسيا والصين وكوريا الشمالية”. لكن الرد الأميركي جاء عبر نائب الرئيس ” جي دي فانس” الذي قال إن هذه الخطوة “ليست تصعيدًا، بل تأمينًا”، موضحًا أن واشنطن “تحتاج لتأكيد موثوقية سلاحها في عالم لا يعرف إلا لغة الردع”.
ويكشف التحليل العميق لهذه التطورات أن ما يجري ليس مجرد “سباق أسلحة” جديد، بل سباق رمزي على قيادة النظام الدولي، فكل طرف يحاول أن يثبت أنه ما زال المتحكم في توازن الرعب، في زمنٍ باتت فيه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يدخلان حتى في صناعة القرارات النووية.
الرئيس الروسي، يدرك من جانبه أن الحرب في أوكرانيا استنزفت صورته كقائد قادر على فرض الهيبة العالمية، لذا لجأ إلى “استعراض الردع”، في مشهدٍ أشبه باستعراض القوة النفسية أكثر منه العسكرية. وعندما رفع صوته وهو يتحدث عن “بوسيدون”، ألحقه بعد رشفة شاي روسي بين أعضاء فريقه في مستشفى عسكري بالتفاخر بمسيرة بحرية من نفس المواصفات لم يصنع لها مثيل، كان في الواقع يرسل رسالة مزدوجة: للخارج بأن روسيا لا تُكسر، وللداخل بأن العاصمة السوفياتية سابقا ما زالت “قوة عظمى لا تُمسّ”.
أما واشنطن، فتواجه بدورها أزمة ثقة داخلية وخارجية. فالحرب في أوكرانيا لم تنتهِ بحسب ما أراده ساكن البيت الأبيض، والحلف الأطلسي منهك بين الإنفاق العسكري والضغوط الاقتصادية، والتنين الصيني يُسرّع تطويره التكنولوجي والنووي بوتيرة غير مسبوقة. وفي ظل هذا المشهد، يختار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” العودة إلى لغة التفجيرات التجريبية، تمامًا كما فعلتها واشنطن في خمسينيات القرن الماضي عندما أرادت إثبات قوتها بعد الحرب الكورية. إذا فالتاريخ يعيد نفسه، لكن في نسخة رقمية متقدمة، حيث تُدار الحسابات النووية اليوم بالحواسيب الفائقة والذكاء الاصطناعي لا بالمختبرات وحدها.
المثير في هذا السياق أن العالم يعيش الآن حالة تشبه ما يسميه الخبراء بـ “توازن الرعب الجديد”، حيث الصين تراقب المشهد بهدوء حذر وتكثف تجاربها الصاروخية في بحر الصين الجنوبي. أما كوريا الشمالية فتُطلق صواريخ تجريبية بين حين وآخر لتذكّر الجميع بأنها ما زالت “اللاعب المزعج”. وإذا مررنا بأوروبا، فهي منقسمة بين الخوف من الانجرار إلى سباق تسلح جديد، والحاجة إلى ضمان مظلة ردع أميركية تحميها من احتمالات المستقبل. وفي الخلفية، ترتفع أصوات العلماء في فيينا وجنيف وهم يحذّرون من أن “عودة الاختبارات النووية تعني نهاية 30 عامًا من جهود ضبط الانتشار.
ووسط هذه التفاعلات، يظهر بوضوح أن السياسة لم تعد تُدار بالاتفاقيات وحدها، بل بالاستعراض. فالرئيس الروسي ” فلاديمير بوتين” يحمل “الأيقونات” في يده في مشهد رمزي أمام عدسات التلفزيون، بينما رئيس الولايات المتحدة ” دونالد ترامب”، فيعيد تعريف مفهوم “القوة الردعية” عبر خطاباته المتكررة عن “أميركا التي لا تخاف التجربة”. وكلا الرجلين يدركان أن السلاح النووي لم يعد فقط سلاحًا عسكريًا، بل هو من المسلمات بأنه أداة سياسية ورسالة إعلامية.
هكذا، تتقاطع الأحداث لتشكل لوحة جديدة: حيث روسيا تُظهر بوسيدون كرمز لـ “العقيدة النووية المتجددة”، ومنافستها النووية الولايات المتحدة تُعلن استعدادها لاختبارات جديدة بحجة “الحفاظ على الجاهزية”. وبذلك يعود العالم تدريجيًا إلى ما كان عليه قبل عقود، لكن بفارق واحد، وهو أن التهديد اليوم لا يُقاس بعدد الرؤوس النووية، بل بسرعة القرار.
وفي النهاية، يبقى الأسئلة المفتوحة أمامنا جميعًا: هل ما نشهده اليوم هو مجرد فصل جديد من الحرب الباردة بطابعٍ حديث؟ أم أننا أمام بداية زمنٍ يُعاد فيه تعريف مفهوم “الردع” على أنه القوة القادرة على تحريك العالم بالضغط لا بالنار؟ وهل أن استعراض القوة بين واشنطن وموسكو سيبقى ضمن حدود “الردع المحسوب”، أم أن العالم يقترب فعلاً من لحظة اختبارٍ لن تُطفأ بسهولة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى