صفقة ترامب وفون دير لاين هل تمثل نعمة أم نقمة للاتحاد الأوروبي؟

عين اخبار الوطن – CNBC
وُصفت صفقة ملعب الغولف في «ترنبيري» التي أبرمتها أورسولا فون دير لاين مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحق بأنها شكل من أشكال الاستسلام والإذلال لأوروبا. والاعتقاد بأن مثل هذا الاتفاق قد يضع حداً للضغوط والابتزاز التي يمارسها ترامب هو إما ضرب من السذاجة أو نتيجة وهم بائس. وعلى الاتحاد الأوروبي الآن أن يتحلّى بالصلابة ويرفض الشروط المفروضة من جانب واشنطن.
فهل الصفقة سيئة بالفعل كما تبدو؟ للأسف، نعم —ولأسباب لا تقل عن ثلاثة على الأقل، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية.
ضربة قاسية للمصداقية الأوروبية
الصفقة تشكّل صفعة لمكانة أوروبا على الساحة الدولية، في وقت يُنتظر من الاتحاد الأوروبي أن يدافع عن مبدأ المعاملة بالمثل وعن النظام التجاري القائم على القواعد، وألا يرضخ للضغوط الأميركية كما قاومتها كل من كندا والصين والبرازيل. بدلاً من المواجهة، اختارت بروكسل التهاون، ما يضعف صورتها كلاعب دولي مستقل.
خسائر اقتصادية وتنازلات أحادية
اقتصادياً، يمثّل الاتفاق طريقاً ذا اتجاه واحد: يخسر المصدّرون الأوروبيون فرص الوصول إلى السوق الأميركية، في حين تُغرق الأسواق الأوروبية بالمنافسة الأميركية المفضّلة. قطاعات صناعية أوروبية أساسية مثل الأدوية والفولاذ والألمنيوم تُركت على الهامش، في حين اختل التوازن التجاري لصالح الولايات المتحدة في قطاعات المستهلكين والغذاء والزراعة.
الرسوم الجمركية التي فُرضت قد تبقى لفترة طويلة، ما يعني أن الضرر لن يكون مؤقتاً. الأسوأ أن الاتحاد الأوروبي تخلى حتى عن حق الرد المستقبلي على ضغوط أميركية إضافية —مثل فرض ضرائب على الخدمات الرقمية أو رسوم الشبكات.
تعهدات مالية خارج الصلاحيات
تُوّج كل ذلك بتعهدات فون دير لاين الدفاعية والاستثمارية التي لا تمتلك تفويضاً لتقديمها، وتتناقض مع مصالح أوروبا. فالأزمة التنافسية التي يعاني منها الاتحاد أساسها خروج رؤوس الأموال إلى الخارج. وفي ظل السياسات الاقتصادية التي يفرضها ترامب وتراجع قيمة الدولار، كانت الحاجة تتزايد لأن تصبح أوروبا قوة استثمارية استراتيجية. إلا أن وعد فون دير لاين بضخ 600 مليار دولار من الاستثمارات الأوروبية في أميركا يحمل رسائل كارثية في التوقيت والمضمون.
كيف وصلنا إلى هذه النتيجة؟
رغم أن جميع الدول الأعضاء كانت تريد تجنّب تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 30% وتفادي اندلاع حرب تجارية، إلا أن الحماسة لتفادي التصعيد كانت أوضح لدى ألمانيا وإيرلندا، بدعم من شركات صناعة السيارات الألمانية وشركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى. ومع ذلك، لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يراهن على اتفاقات الضرائب التفضيلية لإيرلندا أو على خطط «بي إم دبليو» و«مرسيدس» لنقل مراكز الإنتاج إلى أميركا —لخدمة السوق الأوروبية نفسها.
وقد فشلت حكومات الاتحاد الأوروبي في تقديم دعم فعّال لبناء موقف تفاوضي قوي. لكن المسؤولية الكبرى تقع في نهاية المطاف على عاتق فون دير لاين، التي أظهرت ضعفاً واضحاً في اللحظة الحاسمة. فقد أحكم فريقها المقرب سيطرته على مجريات التفاوض في الأسابيع الأخيرة، ودخل الاجتماع النهائي بنية القبول، مما جعل اجتياح ترامب للمفاوضات أمراً محتوماً.
ماذا لو رفضت فون دير لاين؟
لو أنها دخلت القاعة ورفضت الشروط، لكان الغضب الأميركي وبعض الاضطرابات السوقية أمراً وارداً. لكن من المرجّح أيضاً أن يؤدي ذلك إلى تأجيل التوقيع، وإعادة التفاوض، ثم التوصل لاحقاً إلى اتفاق أكثر توازناً، لا يُفرّط بالمصالح الأوروبية العميقة وطويلة الأمد. لكنها اختارت، بدلاً من ذلك، أن تتقمّص دور الطالب المتوسّل أمام رئيس أميركي منتصر.
هذا المشهد يعيد إلى الأذهان المراحل الأخيرة من مفاوضات «بريكست» قبل خمس سنوات، حينما أبدت فون دير لاين استعداداً للتنازل أمام بوريس جونسون، قبل أن تتراجع تحت ضغط مفاوض أوروبي أكثر صرامة وتحالف رباعي من الدول الأعضاء.
صفقة ترنبيري… اتفاق هزيل ومؤقّت لا يزال قابلاً للتراجع
تدير أورسولا فون دير لاين مفوضية الاتحاد الأوروبي اليوم بقبضة رئاسية قوية، وقد ألغت إلى حدّ بعيد آليات الضبط والموازنة الداخلية في الجهاز التنفيذي الأوروبي. وهذا الأسلوب يعكس نهجها الخاص، لكنه لا يبرر أداءً ضعيفاً، غير فعّال، وخالياً من المبادئ في التعامل مع التحديات الجيوسياسية الكبرى التي تواجه أوروبا، من إدارة ترامب إلى أزمة غزة.
أما «الصفقة» التي أُعلن عنها في اسكتلندا، فهي في حقيقتها اتفاق مؤقت هشّ، لا يزال بعيداً عن الصيغة النهائية أو الإلزام القانوني. لم يُوقَّع شيء حتى الآن، فيما بدأت التفسيرات المتضاربة بين واشنطن وبروكسل، والمفاوضات حول التفاصيل الفنية والجوهرية لا تزال جارية. ومن المُرجَّح أن تتدخّل حكومات الدول الأعضاء الـ27 في وقت لاحق، إذ سيتوجب تحويل الاتفاق إلى معاهدة دولية وتشريع أوروبي. بعض القوى الكبرى —وعلى رأسها ألمانيا وإيطاليا— تبدو مؤيدة للصفقة، سواء عن قناعة أو اضطرار، إلا أن الحسابات السياسية الداخلية قد تغيّر مواقفها، خاصة مع تصاعد انتقادات المعارضة ومرشحي اليمين في ألمانيا وفرنسا، الذين يشكّلون تهديداً حقيقياً للنخب الحاكمة هناك.
وما لم تُبرِم فون دير لاين «صفقة تحت الطاولة» مع العواصم الأوروبية، فإن البرلمان الأوروبي سيكون له رأي أيضاً. وقد وضع بيرند لانغه، رئيس لجنة التجارة الدولية في البرلمان الأوروبي، سقفاً نقدياً حادّاً، واصفاً الاتفاق بأنه «انعدام توازن محفور في الصخر» بل و«بؤس صريح». ومع تسرّب مزيد من التفاصيل حول ما تعهّدت به فون دير لاين فعلياً، وما تتوقعه الولايات المتحدة من الاتحاد الأوروبي، تزداد احتمالات أن يتحوّل هذا الاتفاق غير المقبول أصلاً إلى صفقة يصعب الدفاع عنها.
وفي الوقت نفسه، تُظهر البيانات الاقتصادية الأميركية الضعيفة والاضطرابات المتجددة في أسواق الأسهم أن موقف ترامب التفاوضي ليس صلباً كما يبدو. بل إن التهديدات الجديدة بفرض رسوم جمركية تأتي مصحوبة بمهل زمنية إضافية، تصل إلى 90 يوماً في حالة المكسيك، ما يعكس أن هامش المناورة لدى ترامب بدأ يضيق.
بالنسبة لأوروبا، فإن الدرس المستفاد من مفاوضات «بريكست» — والذي كان ينبغي على فون دير لاين استيعابه منذ زمن— هو أن «لا شيء متفق عليه حتى يتم الاتفاق على كل شيء». وهناك الآن فرصة أمام الحكومات الأوروبية والبرلمان الأوروبي لتصحيح المسار وانتشال شيء من هذا الاتفاق المنهار قبل فوات الأوان.