السعودية بين الأمم المتحدة ومعارك الإقليم… من حرب اليمن إلى قاعات نيويورك

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
تقف المملكة العربية السعودية أمام منعطف جديد في مسار علاقتها مع المجتمع الدولي. فمن جهة، حققت اختراقات مهمة عبر استضافتها قمم اقتصادية كبرى وعبر رئاستها لمجموعة العشرين سابقًا، ومن جهة أخرى ما تزال صورتها مرتبطة بملف اليمن وحقوق الإنسان، حيث تتكرر الانتقادات في تقارير الأمم المتحدة ولجانها المتخصصة. وبين هذين الوجهين، تحاول الرياض أن تقدم نفسها لاعبًا أساسيًا في الاستقرار الإقليمي، وصوتًا مهمًا في قضايا الطاقة والتنمية.
وللسعودية علاقة ممتدة مع الأمم المتحدة فمنذ انضمام المملكة للأمم المتحدة عام 1945 كعضو مؤسس، لعبت دورًا نشطًا في الجمعية العامة، وكانت من أوائل الدول التي وقّعت على ميثاق سان فرانسيسكو. وعلى مدار العقود، عُرفت بأنها واحدة من أكثر الدول دعمًا لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وعضو دائم في مجموعة “أصدقاء فلسطين” داخل المنظمة. كما ساهمت في تمويل العديد من وكالات الأمم المتحدة المتخصصة مثل برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الصحة العالمية.
غير أن هذه العلاقة لم تكن دائمًا سلسة. ففي عام 2016 مثلاً، أثارت السعودية جدلًا واسعًا حين وُضعت على “قائمة العار” الخاصة بالأمين العام للأمم المتحدة، بسبب الخسائر في صفوف الأطفال باليمن. لكن الرياض ضغطت بقوة لسحب اسمها من القائمة، مهددة بوقف تمويلها لبرامج أممية. وانتهت الأزمة بحل وسط، لكنّها كشفت عن حدود النفوذ السعودي داخل المنظمة.
واعتبرت اليمن ساحة اختبار صعب للملكة، اذ أنه ومنذ 2015، شكّل تدخل التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن أبرز ملف يربط اسم المملكة بالأمم المتحدة. حيث منح قرار مجلس الأمن 2216 الصادر في أبريل 2015 غطاءً شرعيًا للتدخل عبر مطالبته الحوثيين بالانسحاب من المدن والمؤسسات، وتسليم السلاح. لكن مع طول أمد الحرب، تحولت القضية إلى واحدة من أعقد الأزمات الإنسانية في العالم.
أ شارت تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إلى أنّ أكثر من 21 مليون يمني بحاجة إلى مساعدات إنسانية في 2024، فيما حذّرت لجنة العقوبات الأممية من استمرار تهريب السلاح وتفاقم الانتهاكات. و ظلت جلسات اليمن في قاعات مجلس الأمن، مسرحًا لمواجهات دبلوماسية، حيث تؤكد السعودية أنها تدافع عن “الشرعية اليمنية”، بينما ينتقدها آخرون على الكلفة الإنسانية.
أما في 2022 و2023 فقد لعبت الأمم المتحدة دورًا رئيسيًا في تثبيت هدن جزئية سمحت بدخول الوقود إلى ميناء الحديدة وبتسيير بعض الرحلات من مطار صنعاء. لكن هذه التفاهمات كانت هشة، إذ سرعان ما تعرّضت للانهيار مع أي تصعيد عسكري. وفي أبريل 2023، برزت الرياض كوسيط مباشر حين استضافت وفودًا من الحوثيين بوساطة عُمانية، في خطوة رآها البعض محاولة لتقليص اعتمادها على المظلة الأممية.
في مجلس حقوق الإنسان بجنيف، شكل ملف حقوق الإنسان الذي تصر عليه المنظمات الدولية الغربية ملفا شائكا، اذ بقيت المملكة العربية السعودية تحت المجهر، حيث لم تغب قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي عام 2018 عن تقارير المقررين الخاصين الى جانب ملفات الإصلاحات الداخلية التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مثل رفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة وتمكينها في الحياة العامة، غالبًا ما تُقدَّم كخطوات إيجابية، لكنها لا تُخفي الانتقادات المستمرة بشأن حرية التعبير وملف المعتقلين السياسيين.
وطالبت لجنة مناهضة التعذيب ولجنة القضاء على التمييز ضد المرأة (CEDAW) مرارًا بتعديلات تشريعية لضمان حماية أكبر للحقوق، فيما تؤكد الرياض أنها تسير في إصلاح تدريجي يتوافق مع خصوصيتها الثقافية والدينية. هذا الجدل يجعل المملكة بين صورتين متناقضتين: دولة إصلاحات اجتماعية جريئة، ودولة لا تزال مقيدة في ملفات الحريات السياسية. حسب تقييمات المنظمات الغربية.
في المقابل، يشكّل الاقتصاد السعودي حضورا قويا في الأسواق العالمية وخاصة في مجال الطاقة التي تعتبر ورقة قوة في الأمم المتحدة. فباعتبار الرياض أكبر مصدر للنفط في العالم، وعضوًا قياديًا في “أوبك بلس”، تملك قدرة تأثير واضحة على قرارات تتعلق بالطاقة والتنمية المستدامة. وخلال قمة المناخ (COP27 وCOP28) عرضت مبادرة “السعودية الخضراء”، متعهدة بخفض الانبعاثات الكربونية وزيادة الاستثمار في الطاقة المتجددة.
فساعدت هذه المبادرات على تحسين صورة المملكة داخل أروقة الأمم المتحدة، حيث رحب الأمين العام أنطونيو غوتيريش بخططها الطموحة، لكنه شدد على ضرورة أن تتحول الوعود إلى التزامات ملموسة.
أما على صعيد التوازنات السياسة الدولية، ففي السنوات الأخيرة، تزايد اعتماد الأمم المتحدة على السعودية ليس فقط كممول، بل كلاعب إقليمي في حل الأزمات. ففي الملف السوداني بعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع سنة 2023، استضافت جدة جولات حوار شاركت فيها الأمم المتحدة والولايات المتحدة، وأدت إلى بعض التفاهمات الإنسانية، وفي سوريا، ظلّت الرياض جزءًا من مجموعة الدعم الدولية التي حاولت منذ 2015 دفع التسوية السياسية.
لكنّ التحدي الأبرز يبقى في اليمن مع ان المملكة تشارك في دعم حكومة شرعية و في سعي لضمان أمانها ضد الحركات الانفصالية المدعومة من ايران والمتهمة بزعزعة الاستقرار في الشرق الاوسط، حيث تُختبر قدرة السعودية على التحول من طرف في النزاع إلى راعٍ للسلام. وقد كرر الأمين العام للأمم المتحدة ومسؤولوه أن إنهاء الحرب يحتاج إلى إرادة سياسية من جميع الأطراف، بما فيهم الرياض، التي تدرك أن استمرار الحرب لم يعد فقط استنزافًا عسكريًا وماليًا، بل أيضًا عبئًا على صورتها الدولية.
وبالنهاية يمكن القول وأنه، بين قاعات نيويورك وميادين صنعاء والحديدة، يتضح أن علاقة السعودية بالأمم المتحدة مركّبة ومعقدة. فهي من جهة شريك مالي مهم وعضو نشط في اللجان الأممية، ومن جهة أخرى متهمة بتأزيم واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث مع انها تشارك في الدفاع عن الحكومة المعترف بها دوليا وتمثل الشرعية في اليمن. وبين هذه الصورة وتلك، تتحرك الرياض في محاولة لإعادة رسم ملامح دورها: من لاعب عسكري إلى وسيط إقليمي، ومن متّهم بانتهاكات حقوقية إلى حامل لواء إصلاحات اجتماعية واقتصادية.
لكن الدرس من العقد الأخير يظل واضحًا: لا يمكن لأي دولة، مهما بلغ ثقلها، أن تتحكم في سرديتها الدولية وحدها. ورغم ضعف أدوات الأمم المتحدة، التنفيذية، تبقى منصة تُسجل فيها الانتصارات والإخفاقات معًا. و اليوم المملكة العربية السعودية أمام اختبار مزدوج ، فعليها أن تثبت للعالم أنها قادرة على المشاركة بفاعلية في إنهاء حرب اليمن لخلق سلام دائم، وأن تجعل من إصلاحاتها الداخلية أساسًا لتوافق دولي أوسع.
المقال ١١: زينة بلقاسم