اندفاعة الذكاء الاصطناعي… تعيد ضبط بوصلة الاقتصاد وتبدّل خرائط القوة

الذكاء الاصطناعي- صورة تعبيرية

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

تسير الاقتصادات اليوم فوق حبلٍ مشدود بين الوعد والمخاطرة، فيما يندفع الذكاء الاصطناعي كتيارٍ جارف يعيد توزيع الأدوار بين الدول والشركات والناس. مدن البيانات تنمو كواحاتٍ مضاءة ليلًا، ومختبرات الابتكار تضجّ بأصوات المعالجات، فيما تحاول السياسات العامة اللحاق بآلةٍ تتعلم أسرع مما تكتب التشريعات.

تبدأ الحكاية من الأسواق المالية التي اعتادت قراءة المستقبل في شاشاتها. يومٌ أخضر يليه يومٌ رمادي، لكن الاتجاه العام يشي بأن التكنولوجيا صارت المُحرّك لا المُلاحق. أسهم الرقائق والحوسبة السحابية تتقدّم الصفوف، ومعها تتبدّل معايير التقييم: لم يعد السؤال كم باعت الشركة، بل كم قدرةٍ حاسوبية تملك، وكم نموذجًا تُدرّب، وكم منظومةً تقود.

وعلى اتساع الخريطة، تتسابق العواصم إلى بناء سيادتها التقنية. في الغرب تُشيَّد مراكز حوسبة عملاقة كأنها محطات طاقة معرفية، وفي الشرق تُنسَج تحالفاتٌ حول المعالجات والبيانات. أوروبا تبحث عن معيارها الذهبي في التنظيم، وآسيا تدفع بقدرات التصنيع إلى سقوفٍ جديدة، وفي الخليج تُبنى بنيةٌ تحتية قادرة على تشغيل عقولٍ رقمية بحجم قارات. الكل يريد حصةً من الغد، والغد مكتوبٌ بلغاتٍ عدّة لكن مفرداته واحدة: بيانات، قدرة، نماذج.

داخل الشركات، يتقدّم الذكاء الاصطناعي من هامش الأدوات إلى قلب القرار. خطوط الإنتاج تتعلّم ذاتيًا، وسلاسل الإمداد ترى أعطالها قبل وقوعها، وتسويقٌ يُخاطب الأفراد كما لو كان يعرفهم منذ زمن. في المكاتب، يتقاسم البشر والآلات المهمات: الآلة تُنجز النَّسخ الثقيل، والإنسان يوقّع اللمسة الخلّاقة. والنتيجة مزيجٌ جديد يربح فيه مَن يُحسن التنسيق لا مَن يطلب الإلغاء.

لكن لكل اندفاعة ثمنٌ ومخاطر. استهلاك الطاقة يرتفع كنبضِ مدينةٍ لا تنام، وشبكات الكهرباء تُختبر بضغطٍ غير مسبوق. المياه مطلوبة لتبريد مزارع الخوادم، والمعادن النادرة تدخل معادلات الجيوسياسة. وحتى «العقل المفتوح المصدر» يواجه سؤالًا صعبًا: كيف نوازن بين الابتكار والضمانات، بين حقّ البناء وواجب السلامة؟

سوق العمل بدورها تتغيّر بهدوءٍ صاخب. وظائف تتقلّص، وأخرى تولد من فراغٍ كان يُسمّى «أتمتة». من يتعلّم بسرعةٍ يضع نفسه في مساراتٍ لا سقف لها، ومن يقاوم يكتشف أن الخريطة القديمة لم تعد صالحةً للملاحة. الجامعات تُعيد صياغة مناهجها، والشهادات القصيرة تُنافس سنواتٍ طويلة من التعليم، والمهارة صارت عملةً تُداول كل صباح.

المصارف المركزية والحكومات تراقب المشهد كربانٍ بين موجتين: إنتاجيةٌ قد ترتفع بفعل الرقمنة العميقة، واستثماراتٌ رأسمالية ضخمة قد تغذّي التضخم. أيهما يغلب؟ الجواب ليس معادلةً جاهزة، بل اختبارٌ ممتد: متى تُثمِر الكفاءة مكابحَ للأسعار، ومتى يتحوّل الإنفاق إلى نارٍ تحت القدر؟

التكنولوجيا بدورها تعيد تشكيل الصناعات القديمة. في الطب، تشخيصٌ يُحسن توقيت الإنقاذ، وفي التعليم، فصولٌ تُفصَّل على قياس المتعلم لا على مقاس الصف. الزراعة تقرأ الطقس والتربة كما يقرأ المزارع عيون الغيم، والمدن تُصارح ازدحامها بذكاءٍ يُدير الإشارات لا الناس. هكذا يصبح الذكاء الاصطناعي أقلَّ «أداة» وأكثر «نسيجًا» تتخلّله الحياة.

ومع كل هذا، يبقى السؤال الأخلاقي جوهريًا: من يملك البيانات؟ من يُحاسَب حين يخطئ نموذج؟ وكيف نحفظ إنسانية القرار وسط أرقامٍ لا تُخطئ حسابها؟ الإجابات تتوالد، لكن الإجماع الوحيد أن الحوكمة ليست رفاهية بل بنيةٌ تحتية موازية للبنية التقنية.

التاريخ يقول إن موجات التكنولوجيا الكبرى لا تمرّ مرورًا عابرًا: البخار والكهرباء والإنترنت غيّرت قواعد اللعبة، فكيف بموجةٍ تتعلّم ذاتها؟ الرابح ليس الأكبر حجمًا بل الأسرع تعلمًا، والخاسر ليس الأبطأ فقط بل الأكثر اطمئنانًا إلى ما كان. وهكذا يسجّل عامنا هذا فصلًا تُنسَخ فيه خرائط القوة بالحوسبة لا بالحبر.

في نهاية المطاف، قد يهمس مستثمرٌ وهو يغلق حاسوبه: «لم يعد الخطر في أن تصبح الآلة أذكى، بل في أن نتأخر عن تعلّم لغتها». عبارة تختصر حال العالم اليوم: حين تتقدّم التقنية، تتبدّل القواعد، وحين تتبدّل القواعد، لا خيار إلا أن نتعلّم السير على الحبل… بثبات.
المقال ٤٥: زينة بلقاسم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى