توقف عقارب الحكومة… يربك وول ستريت ويضيع بوصلة التكنولوجيا

بورصة وول ستريت

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

تتأرجح أسواق المال الأميركية هذه الأيام كما لو كانت تسير فوق حبل مشدود بين السياسة والاقتصاد، بعد أن دخلت البلاد في أطول إغلاق حكومي في تاريخها الحديث. مشهدٌ غير مسبوق جعل شوارع المال في نيويورك تتنفس بقلق، وأسواق التكنولوجيا ترتجف تحت وطأة الخسائر، فيما يحاول المستثمرون فهم ما إذا كانت العاصفة الحالية مجرد سحابة عابرة أم بداية لانفجار أكبر.
بدأ الأسبوع بإغلاقٍ ثقيل على مؤشرات وول ستريت، حيث أنهى مؤشر ناسداك تداولاته على انخفاضٍ ملحوظ، في حين تمكّن مؤشرا “داو جونز” و”ستاندرد آن بورز” من تسجيل مكاسب طفيفة لا تتجاوز حدود الرمزية. فالتذبذب كان العنوان، والمزاج العام في السوق بدا متوتراً بين أملٍ خافت في التوصل لاتفاق سياسي ينهي الشلل الحكومي، ومخاوف حقيقية من أن تتحول الأزمة إلى شرارة ركود جديد.
يتذكّر المتابعون أن الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة ليس حدثاً عابراً، بل تجربة تتكرر في التاريخ الأميركي كلما تصادمت المصالح بين البيت الأبيض والكونغرس. لكن هذه المرة مختلفة: فالإغلاق الحالي يُعد الأطول، والأكثر تأثيراً في القطاعات الاقتصادية الحساسة. ومع توقف صرف الرواتب الفيدرالية وتعليق نشر البيانات الاقتصادية الرسمية، فقدت الأسواق بوصلة الاتجاه، حيث المستثمر لا يستطيع أن يبني قراراته على الظلام، ولا “وول ستريت” يمكنها أن تتنفس في غياب المعلومات.
وتتجلى تداعيات الأزمة بوضوح في قطاع التكنولوجيا، الذي تلقّى ضربة قوية بعد موجة بيع مفاجئة لأسهم الشركات العملاقة. أصبحت شركات الذكاء الاصطناعي، التي كانت قبل أشهر ملهمة المستثمرين، فجأة مصدر قلق، إذ بدأت الأصوات تتحدث عن “فقاعة” مالية تشبه ما حدث في مطلع الألفية مع شركات الإنترنت. وامتدت العدوى إلى مؤشرات نيكاي وكوسبي في اليابان وكوريا الجنوبية التي سجلت تراجعاً هو الأكبر منذ عام كامل، متأثرة بانخفاض الطلب العالمي وتراجع شهية المخاطرة.
ويبدو أن المزاج الاستثماري تغيّر جذرياً خلال أيام قليلة، فالرهان على الذكاء الاصطناعي الذي أغرى المستثمرين لم يعد بنفس البريق. فنتائج الشركات الكبرى جاءت مخيبة للآمال، وارتفاع النفقات التشغيلية جعل أرباحها تتآكل. وحتى العملات الرقمية التي عادة ما تستفيد من الاضطرابات، لم تنجُ من موجة التراجع، إذ هبطت قيمتها إلى مستويات لم تشهدها منذ شهور.
ويجد مجلس الاحتياطي الفيدرالي نفسه في قلب العاصفة، فهو حرفيا أمام معضلة صعبة: هل يغامر بخفض أسعار الفائدة لتحفيز الأسواق، أم ينتظر حتى تتضح معالم المشهد السياسي؟ حيث لا يزال التضخم تحت السيطرة، لكن ضعف التوظيف وتراجع ثقة المستهلكين يزيدان من الضغوط على صناع القرار.
ويعترف المحللون بأن الأزمة الحالية تجاوزت كونها مسألة مالية، لتصبح اختباراً للثقة في النظام الأميركي نفسه. فحين يتوقف عمل الحكومة، يتوقف جزء من نبض الاقتصاد العالمي، لأن الدولار، وسندات الخزانة، ومؤشرات وول ستريت، كلها تشكّل أعمدة الاقتصاد الدولي. ومع غياب القرار السياسي، تُترك الأسواق في مواجهة المجهول.
وأزمة عام ألفين وثمانية ليست ببعيدة، وربما ان لم يستذكرها كثر فالبعض يفعل، حين هزّ انهيار المصارف العالمية الأسواق، لكنهم يشيرون إلى أن الوضع اليوم أخطر بطريقة مختلفة: حيث الأزمة ليست مالية، بل مؤسسية، تنبع من انقسام سياسي يضرب جوهر الاستقرار الأميركي. فالمستثمرون لم يعودوا يخافون من الأرقام الحمراء في شاشات التداول، بل من الفراغ الذي خلفه غياب القيادة والاتفاق.
ومع كل ذلك، يبقى الأمل قائماً في أن تنتهي هذه العاصفة قريباً. اذ يقول التاريخ إن الأسواق الأميركية قادرة على النهوض من الرماد، شرط أن تعود الثقة بين مؤسسات الحكم أولاً. لكن إذا طال الإغلاق، واستمرت الضبابية، فإن عام ألفين وخمسة وعشرين قد يُسجَّل في الذاكرة كسنة تقاطعت فيها السياسة والاقتصاد على مفترقٍ خطير، حيث خسر الجميع الوقت، وربحت الفوضى جولتها الأولى.
في نهاية المطاف، لا يتمنى أن يهمس أحد المتداولين في مقهى قريب من وول ستريت قائلاً: “لم يعد الخطر في انخفاض الأرقام، بل في غياب القرار”. عبارة تختصر حال الأسواق اليوم، حين يتوقف الحكم، يتوقف الاقتصاد، وحين تتوقف الثقة، تتوقف الحياة على شاشة البورصة.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى