العراق… من الغزو إلى تحديات الدولة والبحث عن سلام مفقود

 

نيويورك – زينة بلقاسم – عين اخبار الوطن

يقف العراق عند مفترق طرق جديد. فمنذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة عام 2023، دخلت البلاد في مرحلة سياسية متقلّبة بين محاولات تشكيل حكومة مستقرة وضغوط الشارع الذي لم يهدأ منذ احتجاجات أكتوبر 2019. وعلى الرغم من تحسن نسبي في الوضع الأمني مقارنة بسنوات الحرب ضد تنظيم داعش فإنّ الاقتصاد العراقي لا يزال يعاني من الاعتماد شبه الكامل على النفط، وتراجع الخدمات العامة واستشراء الفساد. أما المجتمع الدولي، وفي مقدمته الأمم المتحدة الأمريكية فما زال يحذر من أن أي انتكاسة في العملية السياسية قد تفتح الباب أمام عودة العنف وعدم الاستقرار.

إن تطرقنا الى الأمم المتحدة، فهي حاضرة في العراق منذ سنوات الغزو الأمريكي عام 2003 اذ أنشأ وقتها مجلس الأمن بعثة “يونامي” (UNAMI) بموجب القرار 1500 لدعم العملية السياسية ومساعدة العراقيين على صياغة دستور جديد وإجراء الانتخابات. غير أن المهمة اصطدمت منذ بدايتها بالفراغ الأمني الذي تركه انهيار مؤسسات الدولة بعد سقوط نظام رئيسها السابق “صدام حسين” وما تبعه من حل الجيش وأجهزة الدولة. فتحولت البلاد بسرعة إلى ساحة صراع دموي بين جماعات مسلحة، مع تفجيرات يومية وحرب طائفية بلغت ذروتها بين سنتي 2006 و2007.
وبعد سنوات من الفوضى جاء الانسحاب الأمريكي عام 2011 ليفتح فصلًا آخر. حيث أعلن الرئيس السابق”باراك” أوباما أنذاك، أن العراقيين باتوا “سادة مصيرهم”، لكن الواقع كان أن المؤسسات ما تزال ضعيفة، والانقسام السياسي حاد بين المكونات الثلاثة الرئيسة: الشيعة والسنة والأكراد. وفي 2014، فاجأ تنظيم “داعش” العالم بسيطرته على الموصل ومساحات واسعة من العراق في واحدة من أسرع الانهيارات العسكرية في المنطقة. تدخلت الأمم المتحدة عبر بعثتها الإنسانية، فيما شكّلت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا لدعم القوات العراقية والبيشمركة في معركة التحرير التي انتهت رسميًا في 2017 بإعلان النصر على التنظيم.
لكن هذا النصر العسكري لم يتحول إلى استقرار سياسي. فمدن محررة كالموصل والأنبار تعاني من دمار هائل لم يُعالج إلا جزئيًا، فيما بقي مئات الآلاف من النازحين في مخيمات. أما بغداد، فظلت تغلي على وقع الاحتجاجات الشعبية. في أكتوبر 2019، خرجت مظاهرات ضخمة تطالب بإنهاء الفساد وتوفير الخدمات وفرص العمل، رافعة شعار “نريد وطنًا” واجهتها السلطات بعنف فقد خلالها المئات حياتهم. و حاولت الأمم المتحدة عبر بعثتها في بغداد حينها التوسط بين الحكومة والمتظاهرين مقدمةً خارطة طريق للإصلاح، لم تلقَ تنفيذا كاملا.
و رغم ثرواته النفطية التي تجعله أحد أكبر مصدري الخام في العالم، ظل الاقتصاد العراقي يعاني من لعنة الاعتماد على مصدر واحد. حيث أن أكثر من 90% من إيرادات الدولة تأتي من النفط، ما جعل البلاد رهينة لتقلبات الأسواق العالمية. وعندما هبطت الأسعار عام 2020 بسبب جائحة كورونا، واجه العراق أزمة مالية خانقة. وحتى اليوم، لا تزال البطالة مرتفعة، خصوصًا بين الشباب، فيما يلتهم الفساد معظم عوائد النفط، كما تؤكد تقارير المنظمات الدولية.
أما إقليميًا، فظل العراق ساحة صراع بين الولايات المتحدة وإيران، حيث تمددت طهران عبر الفصائل المسلحة الموالية لها منذ2003، بينما احتفظت واشنطن بوجود عسكري محدود في قواعد عراقية بحجة “التدريب والدعم”. وشهدت الساحة العراقية واحدة من أخطر اللحظات مطلع سنة 2020، عندما اغتالت الولايات المتحدة قائد “فيلق القدس” الإيراني “قاسم سليماني” قرب مطار بغداد، ما هدد بإشعال حرب إقليمية على الأرض العراقية.
و اليوم ومع حلول 2025، يبدو أن العراق يقف أمام ثلاث معضلات أساسية وهي:
–      معضلة السياسية: فما زال نظام المحاصصة الطائفية يعيق تشكيل حكومات مستقرة بينما تزداد الهوة بين الطبقة السياسية والشارع.
–      معضلة الأمنية: رغم تراجع العمليات الكبرى لداعش، فإن خلاياه لا تزال نشطة في المناطق الريفية والصحراوية مستغلة هشاشة الأمن.
–      معضلة اقتصادية واجتماعية: حيث يجعل الفساد المزمن وانهيار البنية التحتية الى جانب تزايد أعداد الشباب العاطلين عن العمل، الاستقرار بعيد المنال.
تستمر الأمم المتحدة عبر بعثتها “UNAMI” في تقديم الدعم، سواء بمراقبة الانتخابات أو بالتنسيق مع المنظمات الإنسانية. لكنها، كما في تجارب أخرى، تصطدم بواقع السيادة الوطنية من جهة وتوازنات القوى الإقليمية والدولية من جهة أخرى. أما الولايات المتحدة، فهي تعلن مرارًا أن مستقبل العراق بيد أبنائه، لكنها تظل لاعبًا أساسيًا في معادلة الأمن والسياسة.
تُظهر خلاصة التجربة العراقية على مدى عقدين بوضوح أن السلام لا يُبنى بالوسائل العسكرية وحدها. فالغزو الأمريكي أسقط النظام لكنه دمّر مؤسسات الدولة. كما أن التحالف الدولي هزم داعش عسكريًا لكنه لم يعالج جذور التطرف. أما الأمم المتحدة فقد ساعدت في بناء العملية الديمقراطية لكنها لم تستطع حمايتها من الفساد والانقسام. وبين هذه المحطات، بقي الشعب العراقي هو الضحية الأولى، باحثًا عن وطن آمن ودولة قوية تضمن له حقوقه الأساسية.
ويبقى السؤال المطروح اليوم والذي يحتاج الى إجابة: هل يستطيع العراق في مرحلته الجديدة أن يكسر الحلقة المفرغة من الأزمات؟ أم أن البلاد ستظل عالقة بين وصاية الخارج وصراع الداخل؟ المؤشرات الحالية تجعل الطريق طويلًا، لكن الدروس الماضية واضحة وتعرب على أنه لا مستقبل مستقر للعراق من دون دولة مؤسسات ومصالحة وطنية حقيقية وتنمية اقتصادية تتجاوز الاعتماد على النفط.
المقال ٦: زينة بلقاسم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى