نادر ونيس.. صانع الأمل ورائد التكنولوجيا الاجتماعية

 

خاص – أحمد محارم –

في عالمٍ يزداد ضجيجه كلّ يوم، وتكثر فيه الوجوه لكن تقلّ فيه الملامح التي تبقى، تشرق أحيانًا على دربك شخصية ليست ككل الشخصيات، لا تُشبه سواها، ولا تمر مرورًا خفيفًا على الذاكرة، بل تتسلل إلى القلب بصمت، وتُقيم فيه بإجلال.
إنه نادر ونيس، اسمٌ يُشبه ما فيه، نادرٌ في حضوره، ونِعمةٌ في مجالسته، وأنيسٌ في زمنٍ عزّ فيه الأنس.

لم يكن لقاؤنا به وليد الصدفة، بل كأنه مكتوب بخط اليد في كتاب اللقاءات التي تترك أثرًا.
رافقني في الإسكندرية الصديق الصدوق المهندس محمد عبد المنعم، وهو لا يُرشدك إلى الطرق فقط، بل يفتح لك نوافذ على أرواح من ذهب، كان من أصدقهم وأغناهم بهذا المعنى: نادر ونيس.

من مشاوير نيويورك الجادة إلى شوارع الإسكندرية النابضة، جمعنا حديثٌ عن الوطن والغربة، عن الجالية والحلم، عن الإنسان حين يُدرك أن الأثر لا يُقاس بحجم المال، بل بما تتركه القلوب الصادقة في درب الآخرين.

ما إن تجلس مع نادر، حتى تُباغتك تلك القدرة النادرة على الاحتواء، يفتح لك قلبه قبل حديثه، ويُنصت لك كما لو كنتَ الوحيد الذي يستحق السمع.
ثم إذا تحدّث، أدركت ببساطة وبدون تكلف أنك أمام رجلٍ لا يهوى استعراض المعرفة، بل يعيشها.

تتشكل في ذهنك تلك المفارقة التي لا تُنسى، لكنه يُحدّثك بلغة سماء، هو لا يُقنعك بأنه يعرف أكثر منك، بل يُريك أن الأفق أوسع من أن نحتكره، وأنّ التواضع أول مراتب العارفين.

نادر ليس فقط رجل مشروع أو إدارة، بل هو مُصلحٌ اجتماعي تكنولوجي عصري، أدرك مبكرًا أن الفجوة بين الأجيال ليست طبيعية بل مُفتعلة، وأن جسرها لا يُبنى بالخطب، بل بالفهم والتقنية واللغة المشتركة.

أيقن أن لغة هذا العصر هي التكنولوجيا، وأن مَن لا يتقنها سيكون خارج المعادلة، فجعل من نفسه مترجمًا بين جيلَيْن: جيل لا يزال يحنّ إلى الورق، وجيل لا يعرف سوى الضوء الأزرق للشاشات.
تخرّج نادر من كلية التجارة عام 1984، ثم شدّ الرحال إلى الولايات المتحدة حيث عمل في مكتب جريدة الأهرام، وعدد من الشركات الأمريكية، واكتسب خبرات متقدمة خلال عشر سنوات قضاها هناك.

وبعد عودته إلى الإسكندرية، لم يأتِ فقط محمّلاً بالذكريات، بل عاد بأفكار ومشاريع تنموية مبتكرة حملت همّ النهوض بالوطن وخدمة الأجيال القادمة.
وكان من أبرز إنجازاته تأسيس مركز متكامل لتعليم البرمجة والتكنولوجيا مجانًا، بالتعاون مع وزارة العمل، وذلك داخل مقر الكاتدرائية بالإسكندرية، بهدف إتاحة الفرصة أمام الطلاب والشباب لاكتساب مهارات رقمية تؤهلهم لسوق العمل وتفتح أمامهم آفاق المستقبل.

وهو ليس مجرد مركز. بل خلية نحل من المعنى، ومُلتقى طموحات، ومنصة انطلاق.
فتّحت أبوابه للجميع، دون تمييز، دون تصنيفات. صغارًا وكبارًا، فتيات وفتيان، لكلٍّ فيه مساحة ومكان.

في إحدى الزيارات، رأيتُ عالَمًا كاملاً يُصنع هناك.
شاهدتُ أفلامًا وثائقية من إنتاج المركز، وقصصًا حيّة لم تكن مكتوبة على ورق، بل محفورة في العيون التي تتحدث، والقلوب التي تؤمن.

أما التجربة الأجمل، فهي “سوق السبت”، حيث تتشارك سيدات وفتيات الأحياء في عرض منتجاتهن اليدوية وبيعها مباشرة، دون رسوم أو عراقيل… تمكين حقيقي لا شعاراتي، يُعطي للمرأة كرامتها، وللمنتَج قيمة، وللجمهور فرح الاكتشاف.

نادر.. الاسم الذي صار رسالة

نادر ونيس لا يُحاضر في القيم، بل يعيشها يومًا بيوم.
هو رجل لا يملك صخب الخطباء، لكنه يصنع الفرق بالفعل لا بالقول.
يبني منظومته لا على التمويل، بل على النية والإيمان والتصميم.
لا ينتظر الضوء الأخضر من أحد، بل يُشعل شمعة، ويمضي، ويقول: “الممكن لا يحتاج إلى إذن”.

حين كتبتُ عنه، لم أُرد أن أُجمّله، بل أن أنقل صورته كما رأيتها: صادقة، ملهمة، ونادرة.
نادر ونيس ليس شخصًا عاديًا، بل هو لحظة استثنائية تمشي على قدمين.
هو من أولئك القلائل الذين إن مروا في حياتك، عرفت أن القدر ما زال يصنع جميلًا.

ختاما، أنت نادر، يا ونيس، في حضورك، في عطائك، وفي قدرتك على جعل “الفسيخ شربات”.
ومَن يعرفك، يُدرك أن اللقاء بك لا يتكرر، ولكنه يُثمر دومًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى